أسلوب المدح والذَّمّ في لغة الحديث النّبويّ 2-2

0 1266

مر معنا سابقا أن من الأساليب النحوية التي استخدمها العرب للتعبير عن المدح، أو الذم؛ أسلوب (نعم، وبئس)، و(حبذا، ولا حبذا)، وغيرها من الأفعال التي تسد مسدها؛ مثل: (ساء، وحسن، وضعف، وكبر)، وما قام مقامها.

وتقدم معنا أن أفعال المدح أو الذم قد وردت في صحيح البخاري في (اثني عشر) موضعا، وذكرنا الصورة الأولى في لغة الحديث النبوي الشريف في كون فعل المدح (نعم)، والفاعل اسم معرف بـ(أل)، والمخصوص.

وسنكمل -بإذن الله تعالى- بقية الأمثلة، والنماذج لأسلوب المدح والذم الواردة في صحيح البخاري كما درسها اللغويون على مائدة البحث اللغوي.

الصورة الثالثة: فعل المدح (نعم)، والفاعل معرف بـ (أل) المخصوص، والتمييز:

ومثاله من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة)، حيث ورد الفعل الجامد (نعم) لإنشاء المدح، وفاعله معرف بـ(ال) وهو (المنيحة)، والمخصوص بالمدح (اللقحة)، وزيادة على ما تقدم كله فقد ورد التمييز وهو (منحة) مقرونا بفاعل (نعم) الظاهر، وهو مما منعه سيبويه، إذ إنه لا يجيز أن يقع التمييز بعد فاعل (نعم) أو (بئس) إلا إذا أضمر الفاعل؛ كقوله تعالى: {بئس للظالمين بدلا} (الكهف:50).

وقد ذهب ابن مالك إلى وقوعه بعد الفاعل الظاهر وعده هو الصحيح؛ إذ قال: "فإن التمييز بعد الفاعل الظاهر وإن لم يدفع إبهاما، فإن التوكيد به حاصل، فيسوغ استعماله، كما ساغ استعمال الحال مؤكدة"، وعليه فإن ابن مالك يعد التمييز في مثل هذه الصورة مؤكدا للفاعل، حملا على الحال المؤكدة، وهو توجيه لا يخلو من السداد، وعليه يتم تخريج الحديث النبوي الشريف، على أن ابن مالك قد أورد شواهد شعرية مؤيدة لهذه الظاهرة، ولم ترد هذه الصورة في غير هذا الموضع في صحيح البخاري.

الصورة الرابعة: فعل المدح (نعم)، وما (مدغمة مع ميم) نعم:

ومثاله من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده)، حيث ورد فعل المدح (نعم) مدغمة فيه (ما) فأصبح (نعما)، و(ما) هنا إما (فاعلا) فهي معرفة بمعنى (الشيء)، وجملة (يحسن عبادة..) حال من الفاعل، وإما (تمييزا) فهي نكرة بمعنى (شيء).

وجاء في (إرشاد الساري): "فاعل نعم ضمير مستتر فيها مفسر بقوله يحسن أي نعما مملوك.."، وأما قول ابن مالك أن (ما) مساوية للضمير في الإبهام فلا تمييز؛ لأن التمييز لبيان الجنس المميز عنه، قال العلامة البدر الدماميني في (المصابيح): إنه مرفوع لأن (ما) ليس مساويا للضمير؛ لأن المراد شيء عظيم، قال: "وموضع يحسن عبادة ربه …إلخ تفسير لـ(ما)، فلا محل لها من الإعراب"، وقد وردت هذه الصورة في هذا الموضع فقط في صحيح البخاري.

الصورة الخامسة: فعل المدح (نعم)، والفاعل معرف بـ(ال)، والمخصوص محذوف فأقيمت صلة الموصول مقامه:

ومثاله من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولنعم المجيء جاء)، حيث جاء (نعم) دالا على المدح، وفاعله معرف بـ(أل) وهو (المجيء)، أما المخصوص فقد حذف وأقيمت الصلة مقامه، فتقدير الكلام: (فنعم المجيء الذي جاء)، وعليه فإن هذا الحديث الشريف شاهد على حذف المخصوص وإقامة الصلة مقامه.

وإن المحذوف ليس شرطا أن يكون موصولا فقد يكون موصوفا على تقدير (فنعم المجيء مجيء جاء)، ولكن كونه موصولا في مثل هذا المثال أجود من كونه موصوفا؛ لأنه مخبر عنه -إذ أصله مبتدأ مؤخر-، وكون المخبر عنه معرفة أولى من كونه نكرة، ولم ترد هذه الصورة في غير هذا الموضع في صحيح البخاري.

ثانيا: أفعال الذم:

الصورة الأولى: فعل الذم (بئس)، والفاعل مضاف إلى ما فيه (أل)، والمخصوص محذوف:

ومثاله من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس أخو العشيرة)، حيث ورد فعل الذم (بئس) وفاعله (أخو) المضاف إلى معرفة بـ(أل)، وهو (العشيرة).

وقد حذف المخصوص لدلالة ما قبله عليه -كما في سياق الحديث- وقد وردت في (موضعين) في صحيح البخاري.

الصورة الثانية: فعل الذم (بئس)، والفاعل معرف بـ(ال)، والمخصوص محذوف:

ومثاله من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئست الفاطمة)، حيث ورد فعل الذم (بئس) وفاعله معرف بـ(أل)، وهو (الفاطمة)، وقد أنث الفعل لتأنيث الفاعل، والمخصوص محذوف للدلالة عليه كما هو في سياق الحديث، ولم ترد غير هذه الصورة في صحيح البخاري.

الصورة الثالثة: فعل الذم (بئس)، ما، المخصوص مصدر مؤول من (أن، والفعل المضارع):

ومثاله من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت)، حيث جاء فعل الذم (بئس) وفاعله مستتر فيه مفسر بالتمييز (ما) النكرة، والمخصوص بالذم هو المصدر المؤول من (أن يقول)، ولم ترد غير هذه الصورة في صحيح البخاري.

وهكذا نرى أن لغة الحديث النبوي الشريف قد استخدمت هذا المستوى الإيجازي البديع في التعبير عن المدح والذم على وفق نسق أسلوب العرب بأعلى درجات الفصاحة، والبيان.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة