- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:لغويات حديثية
الاستفهام في اللغة: استفهمه، سأل أن يفهمه، وقد استفهمني الشيء فأفهمته تفهيما، فهو طلب الفهم، وله في الاصطلاح تعريفات متقاربة لا تخرج عن معناه اللغوي، وهو طلب الفهم.
وللاستفهام تسمية أخرى عند بعض النحاة وهي (الاستخبار)، ويرى بعضهم أن الاستفهام يفترق عن الاستخبار من جهة أن الاستخبار يسبق الاستفهام، قال ابن فارس: "وذكر ناس أن بين الاستخبار والاستفهام أدنى فرق قالوا: وذلك أن أولى الحالتين الاستخبار، لأنك تستخبر فتجاب بشيء، فربما فهمته وربما لم تفهمه فإذا سألت ثانية فأنت مستفهم".
وسماه بعضهم (الاستعلام) وساوى بين الاستفهام والاستخبار والاستعلام، على أن هناك فارقا لفظيا بينهما، وهو أن الاستفهام يكون بأدوات مخصوصة، هي: الهمزة، وهل، وما، ومن، وكم، وكيف، وأين، وأنى، ومتى، وأيان، وأي، فإذا طلب علم ما لا يعلم بهذه الأدوات فهو استفهام، وإذا طلب علم ما لا يعلم بغيرها من الصيغ كصيغة الأمر - كما في قولك: "أخبرني"، أو "اذكر ما عندك من أخبار"، و"أسمعني"، أو "أعلمني الأخبار" - فهو استخبار، ويرى بعض اللغويين أن كل استفهام ليس بالضرورة طلبا للفهم؛ "فليس كل استفهام طلبا للفهم، وليس كل طلب للفهم استفهاما".
كما يعتقدون أن الثراء الدلالي للاستفهام مرده إلى أن هذا الأسلوب - والأساليب الإنشائية بعامة - يتوقف فهم دلالتها على اعتبارات عدة تدخل جميعها تحت مصطلح السياق، أعني: السياق اللغوي، أو المقالي، أو اللفظي للأسلوب، من حيث البناء اللغوي بمستوياته الصوتية والصرفية والتركيبية، ولا سيما "طريقة نطق الجمل، وظواهر التطريز الصوتي المصاحبة لهذا النطق، ومنها النبر، والتنغيم، والفواصل الصوتية"، وكذلك السياق المقامي، ولا سيما ما يمكن أن نسميه: "مكانة المرسل أو صاحب النص، ومكانة المتلقي، أو من يوجه إليهم النص أو الكلام، ومكانة النص نفسه، وكذلك الظروف المحيطة بأسلوب الاستفهام، التي تتصل بالأسلوب، وتساعد على فهمه، ويمكن إجمال ما سبق في:
- معرفة النظم أو الصياغة التي صيغ بها أسلوب الاستفهام.
- الإدراك الواعي للسياق الكلى للاستفهام: سياق الحديث وعلاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسؤول، ومكانة كل، وطريقة نطقه صلى الله عليه وسلم الاستفهام، والظروف والملابسات التي ألقى فيها استفهامه أو سؤاله.
- معرفة مكانة النص؛ حيث إنه نص مقدس بعد القرآن الكريم؛ إذ هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي.
وقد وجد الباحثون اللغويون أن أهم المقاصد الأسلوبية في لغة الحديث النبوي الشريف؛ هي:
أولا: التقرير:
وهو طلب الإقرار بمضمون الكلام، حتى لو كان مضمون الكلام المطلوب تقريره أصبح عند المخاطب مستقرا ثابتا، "فتقرير الإنسان بالشيء جعله في قراره، وقررت عنده الخبر؛ حتى استقر، ويقال: "أقررت الكلام لفلان إقرارا؛ أي: بينته حتى عرفه"، وأصل المادة دائر على دلالة الاستقرار؛ تقول: "قرره وأقره في مكانه، فاستقر"، و"القرارة، والقرار: ما قر فيه الماء".
ومنه أخذ معنى التقرير، فهو طلب السائل من المسؤول أن يقر بثبوت أو نفي مضمون الاستفهام، ويعترف به اعترافا مستقرا يشبه استقرار الماء في الأرض، بحيث لا يتأتى للسامع أو المسؤول بعد إنكار، وإقرار المسؤول: "إذعان للحق واعتراف به، أقر بالحق؛ أي: اعترف به، وقد قرره عليه، وقرره بالحق غيره، حتى أقر"؛ ولذا عرفه أهل البلاغة بأنه: "استفهام غايته حمل السامع على الإقرار"، والاعتراف بأمر قد استقر عنده ثبوته أو نفيه.
وقد توخى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الدلالة في بعض استفهاماته؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أبك جنون؟) قال: لا، قال: (فهل أحصنت؟)، قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به، فارجموه) رواه مسلم.
وقد يفهم السؤال -من دون ربطه بسياقه- على أنه استفهام حقيقي، غير أن فهم الاستفهام في إطار محيط النص أو سياقه، يدل على أنه يتجاوز دلالته الحقيقية، وهى مجرد طلب العلم، فالمسؤول رجل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه، فأخبره أنه زنى! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم درءا لإقامة الحد عليه، بيد أن الرجل ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما فعل ذلك، سأله هذين السؤالين؛ قاصدا التثبت من عقل الرجل وحالته -من حيث الإحصان والعزوبة- بأن يقر على نفسه بأنه عاقل محصن؛ لأن ما يقر به الرجل سيترتب عليه تطبيق حد من حدود الله عليه، وهو الرجم.
ويبدو لبعض الباحثين أنه يحمل إلى ذلك دلالة التعجب؛ أي: التعجب من فعل الرجل، ولعل في تقديم السؤال الأول على الثاني إظهار رغبة من الرسول صلى الله عليه وسلم في درء الحد، فلو أقر الرجل بجنونه، لما أقيم عليه الحد؛ لما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من درئه الحدود بالشبهات، والرواة في الأحاديث الثلاثة المحال إليها اتفقوا في السؤال الأول، غير أنهم اختلفوا في قوله: (فهل أحصنت؟)، فمنهم من رواه: (أحصنت) بحذف همزة الاستفهام، ولعله من فعل الرواة، فالأحاديث الثلاثة جميعها عن صحابي واحد، هو أبو هريرة رضي الله عنه، وربما -وهذا بعيد- كان لتعدد الموقف والحال.
ومن الاستفهام الذي قصد به التقرير أيضا، قوله صلى الله عليه وسلم: (وهل من نبي إلا وقد رعاها؟)، جوابا على سؤال الصحابة إياه لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بجني الكباث، وهو ثمر الأراك، "أكنت ترعى الغنم؟" متفق عليه.
وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم سؤال تعجب واستغراب؛ "لأن في قوله لهم: (عليكم بالأسود منه) دلالة على تمييزه بين أنواعه، والذي يميز بين أنواع ثمر الأراك غالبا ما يلازم رعي الغنم على ما ألفوه"، أما سؤاله صلى الله عليه وسلم إياهم: (وهل من نبي إلا وقد رعاها؟)، فسؤال تقرير وإثبات لا نفي؛ لأن "هل" تفيد النفي وهذا مما تختص به، لكن لما جاء بعدها "إلا" أفادت التقرير، وهو ما أشار إليه ابن قتيبة، حين ذكر أن المفسرين "يجعلونها بمعنى "ما" في قوله: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة} (الأنعام: 158)، وذكر آيات أخر، ثم قال: هذا كله عندهم بمعنى "ما"، وهو... عند أهل اللغة: تقرير".
"والتقرير مستفاد من كون "هل" التي تفيد النفي هنا اقترنت بـ"إلا" التي للحصر، فأفادت معنى مستفادا مقررا، وهو أن جميع الأنبياء قد رعوا الغنم، بدليل التأكيد بـ"من الزائدة"، ودلالة العموم المستفادة من النكرة في سياق النفي، وهذا معنى يسلم به جميع المؤمنين، فهو من تحصيل الحاصل عند كل من المتكلم والسامع، فيكون الاستفهام المتعلق بها إثباتا له، وزيادة في ترسيخه.
ومن التقرير بالهمزة قوله صلى الله عليه وسلم: (أليس قد مكث هذا بعده سنة؟)، قالوا: بلى، قال: (وأدرك رمضان فصام، وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟)، قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي.
واستفهامه صلى الله عليه وسلم جاء تعقيبا على تعجب الصحابة من دخول أحد رجلين من بلي الجنة قبل الآخر، وهما أسلما جميعا، وخرج أحدهما إلى الجهاد -وكان أشد اجتهادا من صاحبه- فجاهد، فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم توفي، فرآهما طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في المنام عند باب الجنة، فخرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي أخيرا منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلى طلحة، فقال: "ارجع؛ فإنك لم يأن لك بعد"، فلما حدث طلحة بما رأى، عجب الناس، وقالوا: يا رسول، هذا كان أشد الرجلين اجتهادا! ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله ذلك.
والاستفهام دخلت الهمزة فيه على النفي، فأثبتته، والنبي صلى الله عليه وسلم قررهم منبها، لم كان التمايز بينهما بسؤاله هذا، وكان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يعبر بطريق التقرير الخبري، فيقول لهم: "إن هذا مكث بعد صاحبه سنة، فصام وصلى.."، لكنه عمد إلى تقرير هذا المعنى بطريق الاستفهام؛ لما فيه من إثارة، ولما فيه من انتزاع إقرارهم بألسنتهم؟ وهذا "أمكن من التقرير الخبري، وأبلغ في التوكيد".
وهذه ميزة التقرير بالاستفهام أن فيه انتزاعا بالإقرار من المخاطب، وإقرار المخاطب بمضمون الاستفهام - ثبوتا أو نفيا - آكد من ذكره بأسلوب الخبر، ثم إن أسلوب الاستفهام يحقق عنصر التفاعل بين المتكلم السائل، والمستمع المسؤول، وهو ما حدث في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والطريف أن الصحابة الكرام أجابوا على كل استفهام بـ"بلى" تقريرا، والرسول لم يكن يهدف إلى أن يجيبوا؛ لأن ما استفهمهم عنه معلوم من سياق الحال قبل؛ من حيث إن الآخر بقي بعد صاحبه سنة، ومن حيث الصلاة والصيام، فهذا أمر معلوم بالضرورة، لكنهم أجابوا؛ بسبب الطريقة التي ألقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاستفهام، وما صحب ذلك من إشارات أو علامات على الوجه، لا يمكننا الجزم بها إلا افتراضا، غير أن سياق الحديث يوحي بها.