- اسم الكاتب:الأستاذ/ إبراهيم اليوسفي
- التصنيف:المركز الإعلامي
يظن كثير من الناس أن العرب أو المسلمين سيتقدمون لو هم اتبعوا طريق الغرب في تطوره، ولن يتحقق هذا حتى يهضموا ثقافة الغرب، ويتمكنوا من علومه وآدابه.
والذي يرى هذا الرأي يبعد النجعة - كما يقال - لأن الانفتاح وحده غير كاف، خاصة إذا علمنا أن العرب والمسلمين ليسوا شرذمة من الناس طفوا على وجه الأرض في العقود الأخيرة، بل هم أصحاب تاريخ وحضارة، ولكن قضت السنن الربانية أن تتداول عجلة الحضارة الأمم، وإذا سلمنا بحضارة المسلمين قديما، فنحن مجبرون على القول بأن الانفتاح على الغرب ليس هو الخطوة الأولى للتقدم، ولعل السؤال الذي يحضر في أذهاننا الآن هو: ما الخطوة الأولى إذا؟
إن الخطوة التي غفل عنها كثير من المثقفين والمفكرين هي هضم تراثنا، واستخلاص الخصائص الحضارية والثقافية التي اتسمت بها هذه الحضارة العظيمة، ومن ثم الانطلاق نحو الغرب، واقتباس ما يتوافق مع ثقافتنا العربية الإسلامية، وتعديل ما نقتبسه؛ حتى نحافظ على خصوصيات الثقافة العربية.
ولعل نظرة سريعة إلى ما أنتجته الإنسانية في القرنين الأخيرين لتظهر - وبجلاء - مدى تفوق المسلمين في شتى الفنون والعلوم، ولسنا نبخس الناس حقوقهم، ولكننا نقول: إن الحضارة العربية الإسلامية أعدت تربة خصبة للحضارة الغربية المعاصرة، وزودتها بجذور العلوم جلها؛ حتى لا يكاد يخلو فن ولا علم من العلوم الحديثة، إلا وفي تراث العرب والمسلمين بعض ملامحه وأسسه، التي كانت ستظهر بعد زمن علما مستقلا، لو لم تتوال النكبات والأزمات على المسلمين منذ سقوط خلافة بني العباس في المشرق، ووأد حضارة الأندلسيين في المغرب.
لقد أبانت مناهجنا التعليمية عن عقمها وسوء التخطيط فيها عندما صارت تدرس تاريخ الغرب وثوراته وإنجازاته، في حين أغفلت تاريخ العرب والمسلمين ولم تلتفت إليه، فنتج عن هذا جيل مهزوم نفسيا، ضعيف علميا، كيف لا وهو لا يعرف من أمجاد آبائه شيئا حتى يستند إليه، ويكمل ما بدأه الأسلاف؟!
فشاع بين شبابنا كلام لا يبشر بخير؛ من مثل قولهم: كوكب اليابان، وذاك الغرب، وتلك أوربا، وبيننا وبينهم سنوات ضوئية... إلى غير ذلك من رسائل التثبيط والركون إلى التسليم بالواقع، حتى صار قصارى جهدنا أن نقول: إننا نعمل بجد حتى نستفيد من خبرات الغرب... إلخ، هل سنظل في المستقبل نقتبس؟ ألن نزيد؟ ألن نطور المعارف؟ أليس بوسعنا أن نبدع؟
إن السبب الخفي في تخلفنا هو جهلنا بماضينا، وإعراضنا عن تراثنا، وازدراؤنا لأجدادنا الذين بنى الغرب على آثارهم فشاد صرح الحضارة المادية الحديثة.
ولعل هذا ممنهج ومقصود، فالغرب نفسه الذي يدعي العلمية والشفافية والموضوعية، عندما يؤرخ للعلوم على اختلاف مشاربها، يبدأ بالمرحلة اليونانية، ثم ينتقل إلى القرون الوسطى في أوربا، ليصل بعد ذلك إلى المرحلة المعاصرة، ويضرب صفحا عن إسهام المسلمين في العلوم كلها.
ولعل أبرز الأمثلة هو إنكار الغرب للجهود العربية الإسلامية في حفظ الفلسفة اليونانية التي يتبجح بها الغرب بعدما كادت تنقرض، وما زال النقاش بل الاستبداد العلمي قائما بخصوص مؤسس علم الاجتماع، رغم توافر الشروط العلمية والموضوعية لهذا العلم في مقدمة ابن خلدون، أما الدرس اللساني واللغوي، فقد دخل دائرة التحريف هو الآخر، فلم يعرج عليه أحد ممن عنوا بالتأريخ له، فذهبت عشرة قرون من البحث اللغوي العربي أدراج الرياح.
لكن المشكل الأكبر ليس هذا، المشكل الأساس هو أن العرب ما زالوا ينظرون إلى كل وارد من الغرب نظرة احترام وتقدير، وتبجيل وتقديس أحيانا، في حين يحتقرون ما أنتجه الأسلاف وكابدوا في سبيله المشاق، وينسون الحقيقة العلمية الثابتة، وهي أن مسار العلم مسار دائري وليس مسارا خطيا؛ لذلك فالعلم يعود دائما إلى نقطة البحث التي انطلق منها؛ حتى يصحح ما كان يعتقد أنه الصواب، ثم أظهرت التجارب والتطور العلمي خطأه وفساده.
بل يجهل أو يتجاهل الغرب الظروف التي أبدع فيها المسلمون ما أبدعوا، فمختبر ابن سينا لن يبلغ اليوم مختبر طالب في جامعة أمريكية أو فرنسية، بله مختبر أستاذ أو باحث كبير في اليابان أو أمريكا.
إن ثقافتنا هذه، ومعرفتنا العرجاء المشوهة لتاريخنا، هي السبب في فشل العرب وتخلفهم، منذ تقوقعوا على ذاتهم إبان خلافة العثمانيين، ومنذ انفتحوا على الغرب دون شرط أو قيد بعد حملة نابليون، فقرروا دفن تراثهم، وحنطوه وجعلوه مومياء لا يعرف كنهها إلا المتخصصون الكبار.
يرى كثير من الناس أن ما يقع في العالم اليوم مجرد مرحلة عابرة، وأنه تحصيل حاصل للتطرف الديني، والنزاع العرقي، والاختلاف الطائفي، لكن - وكلامنا عن العرب والمسلمين؛ لأنهم المتهمون بهذا التطرف - لا يمكن تقزيم المشكل الذي يؤرق العالم في سبب واحد يظهر للأغرار قبل أولي الألباب.
والسبب في نظرنا هو غياب حضارة أسلافنا عن مناهجنا التعليمية، ومحافلنا الأدبية، ونوادينا الثقافية؛ لذلك صرنا نصدق أننا أمة من الظالمين والسفاحين الغاصبين، في حين نجد القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة يوليان الدماء والأرواح عناية وحرمة كبيرة، لا تكاد الأرواح تتمتع بها في أي شريعة أو ملة.
ومما سبق نستطيع القول: إن ثقافتنا عن التغيير والتقدم ثقافة تحتاج إلى إعادة النظر، وتحديد مصادر القوة، وتدارك مواطن الضعف، وتعزيز الشعور بفخر الانتماء لهذه الحضارة العظمى، والحفاظ على هويتنا العربية الإسلامية؛ حتى نقرن بين دروس الماضي وإدراك الحاضر، فنهتدي سبيلنا في المستقبل.
والأمل كبير في عودة العرب والمسلمين إلى الريادة والقيادة، خاصة بعدما تيسرت سبل الإرشاد والتقويم، ولعل خوض الشباب غمار مثل هذه المواضيع في هذه الأيام لأكبر دليل على توقد شرارة الوعي، والسير قدما نحو التغيير الإيجابي، والله ولي التوفيق.