- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:لغويات حديثية
لا يزال حديثنا موصولا عن المقاصد الأسلوبية التي استخرجها اللغويون في لغة الحديث النبوي الشريف؛ ومن ذلك:
سادسا: الاستدراج:
الاستدراج: استفعال من درج، وأصلها ترتيب شيء فوق شيء، ومنه: درج البناء ودرجه، بالتثقيل، مراتب بعضها فوق بعض، واستدرج فلان فلانا؛ أي: أدناه منه على التدريج، وروي عن أبي الهيثم: امتنع فلان من كذا وكذا، حتى أتاه فلان فاستدرجه؛ أي: خدعه؛ حتى حمله على أن درج في ذلك، ومنه قوله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} (الأعراف:182)، وقوله: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} (القلم:44).
وعلى ذا، فالاستدراج: انتقال بالمستدرج من أمر إلى أمر آخر، أو من حجة إلى حجة أخرى، أو من حال إلى حال بطريقة من طرق الكلام، بحيث لا يشعر أو يعلم المستدرج، والقصد من الاستدراج إقامة الحجة على المستدرج وإلزامه بها؛ سواء بحق أو بباطل، وهو في الاستفهام: إلجاء المسؤول إلى جواب يكون حجة عليه، ولم يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في حق، وورد ذلك في حديثه صلى الله عليه وسلم إلى اليهود في شأن الشاة المسمومة التي أهدوها إليه؛ رغبة في قتله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقي عنه؟)، فقالوا: نعم، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (من أبوكم؟)، قالوا: فلان، فقال: (كذبتم، بل أبوكم فلان)، قالوا: صدقت، قال: (فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألت عنه؟)، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا، عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال لهم: (من أهل النار؟)، قالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفونا فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدا)، ثم قال: (هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟)، قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: (هل جعلتم في هذه الشاة سما؟)، قالوا: نعم، قال: (ما حملكم على ذلك؟)، قالوا: إن كنت كاذبا نستريح، وإن كنت نبيا لم يضرك" رواه البخاري.
وفي حديثه إلى أعرابي جاء منكرا ولده؛ لأنه ولد أسود، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من إبل؟)، قال: نعم، قال: (ما ألوانها؟)، قال: حمر، قال: (فهل فيها من أورق؟)، قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأنى هو؟)، قال: لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وهذا لعله يكون نزعه عرق له) رواه البخاري.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم من هم اليهود خداعا ومكرا وكذبا، وقد أعلمه الله عز وجل بأن الشاة مسمومة، فأخبر صحابته بذلك، وكان يمكنه أن يسأل اليهود منذ البدء: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ لكنه عمد إلى استدراجهم بهذه الاستفهامات المتتالية؛ ليلجئهم في النهاية إلى الإقرار؛ لما يعلم من معاندتهم، فسألهم عن أبيهم فكذبوا، فأخبرهم من يكون، فأقروا له بالصدق، ثم سألهم عن أهل النار فكذبوا، فأخبرهم، فلم ينقضوا قوله، بل سكتوا إقرارا منهم بصدقه؛ ولذا لما سألهم مستدرجا إياهم في الثالثة: (هل جعلتم في هذه الشاة سما؟)، اعترفوا بفعلتهم، ولو أنه صلى الله عليه وسلم عمد بالاختيار إلى الأسلوب المفترض، فسألهم عن الشاة أول ما سأل، لكذبوا كما كذبوا أول مرة، ولكنه أراد أن يلزمهم بالصدق؛ ولذا تدرج معهم من سؤال إلى سؤال، مرتقيا في التضييق عليهم وإلجائهم إلى الصدق؛ إقامة للحجة عليهم في أمر الشاة المسمومة، وإظهارا لسوء طويتهم وخبثهم ومكرهم، وهذا هو الأسلوب الأمثل في خطاب اليهود، وهو أسلوب قرآني حكاه القرآن الكريم عن إبراهيم عليه السلام حين دعا قومه إلى الإيمان، فتدرج بالنظر في الكواكب والقمر والشمس، محتجا عليهم بأفول الكوكب والقمر والشمس، فاستدرجهم رويدا رويدا إلى بطلان كونها آلهة تعبد؛ إلزاما لهم ببطلان كون أصنامهم آلهة في آيات سورة الأنعام.
وكذلك كانت بلاغته صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي، فهل هناك أعرابي يعيش في الصحراء يستغني عن الإبل؟ وكان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يجيب على الأعرابي بقوله: "لعل هذا الغلام نزعه عرق إلى جد من جدوده"، لكن الرجل ربما فهم ذلك على أنه مجرد تعقيب على ما ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم أو مجرد تطييب لنفس الرجل، وحتما لم يكن ليشفي ما بنفسه من ثورة وشك وألم، وإلا لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه امرأته ويستفتيه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان طبيبا بنفوس أصحابه، خبيرا بما يصلح أدواءهم، استدرج الأعرابي إلى الحجة الملزمة باستنطاقه هو بما فيه شفاء نفسه، وكل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أنه تدرج معه من سؤال إلى سؤال، فهمها الرجل جميعا على أنها أسئلة حقيقية، وهي كذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتغى منها في النهاية استدراج الأعرابي إلى ما يشفي صدره، سأله عن الإبل: (هل عنده منها شيء؟)، فأجاب الرجل: نعم، فسأله عن ألوانها، فقال: حمر، فسأله عما إذا كان فيها جمل أورق -الذي في لونه بياض إلى سواد-، وحتما سيكون من بين الإبل أورق، فالرسول عالم ببيئته وما فيها، فأجاب الرجل: نعم، وهنا سأله مستدرجا عن السر في اختلاف لونه عن لون غيره، فأقر الرجل من حيث لا يشعر: "لعله يا رسول الله يكون نزعه عرق له"، فاستدرجه إلى ما أراد، (وهذا لعله يكون نزعه عرق له)، فألزمه بقياس هذا على ذاك؛ إلزاما له بالحجة، وقيمة هذا الأسلوب يظهر في إلجائه صلى الله عليه وسلم المستدرج إلى الحجة التي لا يحير معها جوابا، لأنه تدرج معه من حال إلى حال؛ إقناعا له، وتمكينا لما أراد أن يحسبه به في نفسه، وهذا أبلغ شفاء ودواء للنفس الحائرة، وأقوى ردعا وزجرا للمعاند، وآكد وألزم للحجة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
سابعا: الاستدراك:
تدور معاني "درك" حول الإدراك لما سبق: بمعنى اللحاق والوصول إلى الشيء، واستدرك الشيء بالشيء: حاول إدراكه به، فالاستدراك: طلب إدراك أمر ما، أو كلام سابق في حوار بين السائل والمسؤول، ويكون حين يعمد السائل إلى استعادة ما قال؛ رغبة منه في زيادة بيان، أو إيضاح، أو ترسيخ لحكم، أو تغيير له، أو تأكيد لما قيل، أو تنبيه له.
وقد آثر الرسول صلى الله عليه وسلم التعبير به في خمسة أحاديث، وجميعها ورد فيها الاستفهام بصيغة واحدة، هي: (كيف قلت؟).
من ذلك حديثه الذي وعظ فيه الصحابة وذكر لهم فيه: "أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، يكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل، غير مدبر)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف قلت؟)، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أيكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل، غير مدبر إلا الدين؛ فإن جبريل قال لي ذلك) متفق عليه.
وحديثه صلى الله عليه وسلم إلى الفريعة بنت مالك؛ حيث سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتنتقل إلى أهلها بعد وفاة زوجها، ولا سيما أنها لم تكن في مسكن له، ولا يجري عليها منه رزق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (افعلي)، ثم قال: (كيف قلت؟)، فأعادت عليه قولها، قال: (اعتدي حيث بلغك الخبر) رواه أبو داود والنسائي.
والقصد من الاستفهام بقوله: (كيف قلت؟) استعادة طرح السؤال مرة أخرى عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا استدراك؛ لمزيد تنبيه، وزيادة تأكيد على ما زاده على إجابته في الحديث الأول، وهو الدين؛ تنبيها على أن حقوق الناس -ولا سيما الدين- لا يكفرها الجهاد والشهادة في سبيل الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين) رواه مسلم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات الميت سأل: (هل ترك لدينه من قضاء؟)، فإن أجيب أنه ترك وفاء لدينه، صلى عليه، وإن حدث أنه لم يفعل، أمر أصحابه فصلوا عليه، متفق عليه.
أما في الحديث الثاني، فاستدرك صلى الله عليه وسلم إجازته الفريعة أن تعتد في بيت أهلها بقوله: (كيف قلت؟)، فأعادت عليه قولها، فقال: (اعتدي حيث بلغك الخبر)، وهذا استدراك لتغيير الحكم السابق بجواز أن تعتد في بيت أبيها، فأمرها أمر وجوب أن تعتد في بيت زوجها؛ حيث بلغها الخبر؛ كقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (البقرة:234).
وفي الحالين استدرك النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب الاستفهام، "فلم؟" وقد كان يكفيه أن يأمر أصحابه أو أحدهم بإبلاغ السائل بما أراد؛ تعقيبا على ما أجاب به من قبل، لكنه حرص صلى الله عليه وسلم أن يستدعي السائل في الحالين، ولنلحظ التعبير بـ"ثم" في الحديثين، وهو ما صرحت بدلالته بعض الروايات الأخرى؛ كما في رواية النسائي من طريق أبي هريرة في الحديث الأول: "...قال: (نعم)، ثم سكت ساعة، قال: (أين السائل آنفا؟)، فقال الرجل: ها أنا ذا، قال: (ما قلت؟)، قال: قلت..."، كما حرص أن يستدرك عليه بالاستفهام، والأمر في الاستدراك محمول على أنه أوحي إليه به في الحال؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إلا الدين؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك).
أما حرصه أن يستدعي السائل، فلأن الأمر تشريع، واطمئنان على التبليغ، وأما حرصه أن يستدرك السائل باستعادة ما سأل من قبل بأسلوب الاستفهام، فلما يتميز به أسلوب الاستفهام من قدرة على تنبيه المسؤول، واستثارة وحث على الإصغاء لما سيجيب به في المرة الثانية، ولو استدرك بقوله مثلا: "هذا جبريل يقول: إلا أن يكون عليك دين" -وهي من طريق عمرو بن دينار من رواية أبي قتادة أيضا، ولكن رواية الليث أرجح؛ لكثرتها من طرق مختلفة عند النسائي والترمذي ومسلم- لاقتصرت الدلالة على الإضافة، وافتقد الكلام ما يحققه الاستفهام من تنبيه وإثارة واستدراك.
فهذه أبرز المقاصد الأسلوبية التي استخرجها اللغويون في لغة الحديث النبوي الشريف، وهناك المزيد من المباحث اللغوية ضمن هذا السياق يضيق بسردها مساحة هذا المقال، والله تعالى أعلى، وأعز، وأعلم.