- اسم الكاتب:عمر اعراب
- التصنيف:من ذاكرة التاريخ
العلماء كما هو معروف في الحديث النبوي هم ورثة الأنبياء، وهم من النخبة التي تصون الدين والدنيا، والمجتمع والدولة، والجماعة والأمة، فهم حراس الشريعة الساهرون على إقامة العدل والحق، كما لهم أسماء لا تحصى في تراثنا الإسلامي في شتى الحقول والميادين المعرفية،.. وسنتطرق في هذا المقال إلى نماذج من بعض هؤلاء العلماء الذين انتهت سيرتهم إلى نهضة فعلية وصحوة عملية في فترات معينة من تاريخنا.
عبد الله بن ياسين وتأسيس دولة المرابطين
عن طريق رجل واحد ظهر “المرابطون” في ساحة التاريخ، وهذا الرجل هو الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين الجزولي، الذي كان من تلاميذ الشيخ وجاج بن زلو اللمطي في منطقة سوس جنوب المغرب الأقصى، فاختاره أستاذه هذا لمرافقة يحيى بن إبراهيم الجدالي الذي كان يبحث عن أحد الشيوخ الدعاة، ليعلم القبائل الصنهاجية في صحراء بلاد شنقيط الإسلام الصحيح وليعمل على نهضتهم.
وافق عبد الله بن ياسين على هذه المهمة بعد أن رفض باقي الطلاب، فرافق الزعيم الصنهاجي يحيى إلى الصحراء وبذل جهدا كبيرا في القيام بالتعليم وشحن الهمم، فلم يأبه بالعراقيل التي اعترضته في البداية، فنجح في أن يجعل من الصنهاجيين قوة عسكرية سماها؛ "المرابطون" وذلك في سنة 445هـ/1052م، فاستطاع بذلك الزحف بهم إلى جنوب المغرب الأقصى، حيث واجهوا تسلط القبائل الزناتية وقضوا على أمرائهم، بالإضافة إلى الجهاد ضد الطوائف من الوثنيين والشيعة والخوارج، ثم الكيان البرغواطي الخارج عن الإسلام والذي استنزف قوى المرابطون، حيث سقط عبد الله بن ياسين شهيدا في قتاله معهم عام 451هـ/1059م.
وبذلك يكون الشيخ عبد الله بن ياسين قد أسس حركة المرابطين التي تبنت دعوته، واستطاعت بها قبائل صنهاجة في غرب الصحراء الكبرى كسر الحصار المضروب عليها من جهة الشمال حيث سيطرة الزناتة ثم الجنوب حيث البوابة نحو إفريقيا المدارية، ليخرج من هذه الحركة رجال عظام ساروا على نهج ابن ياسين، حيث كان أبو بكر بن عمر (قائد المرابطين بعد وفاة ابن ياسين) الذي اتجه نحو الجنوب وقاد عمليات الفتح الإسلامي في غرب إفريقيا، ثم يوسف بن تاشفين في الشمال الذي قام بتحويل الحركة المرابطية إلى دولة كبرى ذات حكم إسلامي رشيد في المغرب والأندلس.
الباجي وابن حزم ومجابهة فتنة ملوك الطوائف
كان من أكبر مآسي الأندلس التاريخية؛ هي عهد “ملوك الطوائف” في القرن الخامس الهجري، المعروف بكثرة الانقسامات بين المسلمين ونزاعاتهم الأهلية وموالاة أمرائهم للقوى المسيحية التي بدأت تتمدد على حساب الممتلكات الإسلامية، فكان ذلك حقبة من الضعف الشديد للأندلس الإسلامية، التي مزقتها دويلات الطوائف التي يتصارع ملوكها على مصالح عروشهم، ولو كان ذلك لصالح النصارى وعلى حساب المصلحة العامة للمسلمين، ومن جهة أخرى فقد ظهر في هذه الفترة علماء أبوا السكوت عن هذه الفتنة الكبرى التي تهدد البلاد والعباد، فكان على رأسهم الفقيه الفذ أبو الوليد الباجي والعالم الكبير ابن حزم الظاهري.
فبعد عودته من المشرق عام 440هـ، قام الفقيه والعالم أبو الوليد الباجي إلى مباشرة الدعوة إلى الوحدة، بعد أن رأى تفاقم التشرذم بين المسلمين في الأندلس، فبدأ التجوال في كل أنحاء البلاد من المدن والقرى والجهات، يدعو إلى الاتحاد ونبذ النزاع ويحذر من مغبة استمرار الأوضاع وعواقبها على مصير المسلمين، فكان يتلقى الترحاب في كل منطقة من أجل هدفه النبيل لتحقيق الالتحام والوحدة الإسلامية وصد العدوان النصراني المتنامي، فكان الحكام أيضا يستقبلونه استقبالا زائفا، ويدعي كل منهم السعي لتحقيق ذلك، فكيف يمكن ذلك وهم العامل الرئيسي فيما تعانيه الأندلس في ذاك الوقت.
فكان لدعوة الباجي أثر كبير في نفوس المسلمين في الأندلس، إذ أصبح يتداول وجوب الاتحاد والاعتصام بحبل الوحدة والابتعاد عن الصراع والخصومات، فقد استمر نداء هذا العالم الفقيه ما يقارب ثلاثين سنة حتى توفي بمدينة ألمرية عام 474هـ، وذلك في الوقت الذي كان فيه المسلمون يتخذون خطوات جادة تجاه الحالة المتردية بالبلاد، حيث التقدم الصليبي بالشمال والمزيد من النزاع بين ملوك الطوائف، فانتهى ذلك إلى الاستنجاد بالمرابطين الذين كانوا بصدد توسيع رقعة دولتهم في المغرب.
لكن على عكس الباجي الذي سلك طريق الدعوة والنصح؛ فقد ظهر عالم آخر سلك طريقا آخر، وهو أبو علي بن حزم الأندلسي صاحب التصانيف الشهيرة في العقيدة وعلم الكلام، والذي جاهر بمعارضته للوضع الطائفي في الأندلس، وانتقد بشدة ملوكها حتى أنه لم يكن يتردد في التصريح والقدح في خيانتهم وفجورهم وموالاتهم للأعداء، وهذا ما جعله يتعرض للنفي ويضيق عليه، وقد اشتهر بعبارته التي قال فيها: “والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا، فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفا من سيوفه”(رسائل ابن حزم 3/174).
وفي هذه العبارة يتضح لنا النظرة الثاقبة للإمام ابن حزم، حيث أنه رأى أن ملوك الطوائف قد يذهبون إلى اتخاذ عادات المسيحيين من أجل عروشهم، وهذا ما حدث بالفعل في مواضع كثيرة من تاريخ الأندلس، كما أننا نرى ابن حزم قد دعا الله تعالى إلى “تسليط أحد سيوفه” على ملوك الطوائف، وكأن يوسف بن تاشفين (الذي أنهى حكم ملوك الطوائف بعد ذلك) هو هذا “السيف” الذي ذكره ابن حزم في دعائه.
وبالتالي كان لابن حزم وأبي الوليد الباجي دور مؤثر في تهيئة الأجواء لاستقبال المرابطين في الأندلس، التي كانت مهددة بالسقوط الكلي بعد الاحتلال النصراني لطليطلة عام 478هـ، فأدى ذلك إلى دخول البلاد في حكم دولة المرابطين التي أمدت من عمر الأندلس الإسلامية إلى ما يقارب أربعة قرون أخرى.
الهروي وابن الخشاب والدعوة إلى جهاد الغزاة الصليبيين
في أواخر القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، اصطدم العالم الإسلامي بالحملة الصليبية الأولى على المشرق، وعلى إثرها استطاع الصليبيون اختراق الأراضي الإسلامية بدءا من الأناضول وانتهاء بفلسطين، بعد أن وجدوا حالة من الضعف تصيب الأمة الإسلامية في ذاك الجزء، حيث بدأ الانقسام يعتري دولة السلاجقة الكبرى حاضنة الخلافة العباسية (الضعيفة أصلا)، ثم الصراع بينها وبين الفاطمية العبيديين في مصر، وهذا ما مكن الفرنجة الصليبيين من احتلال بلاد الشام وإقامة إمارات نصرانية فيه.
وقد أثار خبر المذبحة الشنيعة التي ارتكبها الصليبيون غداة احتلالهم لبيت المقدس عام 492هـ/1099م، التي قتلوا جميع من فيها من المسلمين؛ استياء علماء الشام من قنوط القيادات الإسلامية وتقاعسها عن الجهاد، وكان من أبرز هؤلاء العلماء قاضي دمشق زين الدين الهروي، الذي توجه مباشرة إلى بغداد عاصمة الخلافة بعد سماعه عن أفاعل الفرنجة، واستنكر على الناس هناك خنوعهم، وهو ما أدى به إلى مقابلة الخليفة والتصريح له بوجوب تجهيز جيش لطرد الصليبيين من القدس". [جهاد المسلمين في الحروب لصليبية لفايد عاشور: 128].
ولم يكن الهروي العالم الشامي الوحيد الذي تحرك؛ فقد ظهر ابن الخشاب فقيه حلب الذي أدان تعامل أمير حلب رضوان بن تتش مع الصليبيين ومهادنتهم حين حاصروا المدينة، فأثار الرأي العام حول وجوب قتال الفرنجة الغزاة، وبادر أيضا بالسفر إلى بغداد فشكل هو ومن معه ورقة ضغط على الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي، حيث “استصرخ الحلبيون العساكر الإسلامية ببغداد وكسروا المنابر”[زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم]. فأدى هذا بالسلطان محمد بن ملكشاه إلى إصدار أمر إلى أتابك الموصول مودود بن التونتكين، الذي سارع بتجهيز الجيش والتوجه به نحو الشام.
وهكذا كان لكل من دعوة الشيخين الهروي وابن الخشاب بعد سقوط القدس في يد الصليبيين؛ أثر كبير في شحن النفوس والاستعداد لجهاد الفرنجة المحتلين، فقد استطاعا وضع السلطان السلجوقي في موقف حرج، وهو الذي كان يعاني من اضطرابات داخلية في خراسان، لكن هذا لم يوقف عزيمة الجهاد، بداية بخروج جيش مودود ثم ظهور الأسرة الزنكية مع عماد الدين وابنه نور الدين محمود الذي عمل على توحيد الجبهة الإسلامية لدحر الجيوش النصرانية، ليظهر بعد ذلك صلاح الدين قائد الأيوبيين ومحرر القدس، لينتهي أخيرا بالمماليك الذين استطاعوا القضاء على أفول الصليبيين بالشام في النصف الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي.
العز بن عبد السلام وابن تيمية
دخل العالم الإسلامي منتصف القرن السابع الهجري في خضم تحولات أصابته بعد الغزو المغولي القادم من جهة الشرق، والذي وصل إلى العاصمة بغداد فدمرها، وذلك تزامنا مع تواصل الحملات الصليبية على المشرق، وقد سقطت الدولة الأيوبية وقام المماليك مكانهم وتصدوا لخطر المغول. وفي غمرة هذه التغيرات؛ ظهر العز بن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء، والذي كان له بالغ الأثر على مجريات الأحداث في تلك الفترة.
فقد انقسم الأيوبيين في أواخر عمر دولتهم إلى أمراء يحكمون بمصر والشام، وكان بينهم نزاع أدى إلى الاستعانة بالعدو الصليبي، فقد قام حاكم دمشق الصالح إسماعيل بالتحالف مع الفرنجة وبيع السلاح لهم، فصعد العز بن عبد السلام منبر الجامع الأموي وانتقد ذلك بشدة مما جعل الصالح إسماعيل يعتقله، فأفرج عنه بعد ذلك بسبب الضغط الشعبي، ليخرج العز من الشام نحو مصر، وذلك بعد رفضه التراجع عن موقفه، حتى بعد أن استرضاه حاكم دمشق الأيوبي.
فاستقبل بحفاوة في القاهرة عام 639هـ، وحظي بكرم من السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب، لكن ذلك لم يمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد توليه منصب القضاء، حيث كان يستنكر على السلطان تواجد المنكرات في بعض مناطق بلاده، إضافة إلى ما كان له من موقف صارم تجاه إمارة المماليك، حيث أفتى بوجوب بيعهم كعبيد، حتى صار يلقب ببائع الأمراء [كتاب العز بن عبد السلام لمحمد الرخيلي:180].
وبعد سقوط الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك في مصر، والذي تزامن مع تدمير الدولة العباسية واحراق بغداد 656ه، على يد التتار الذين وصلوا إلى الشام؛ بدأت طبول الحرب تدق في مصر، التي قرر فيها جمع الضرائب من الناس لإعداد العدة العسكرية، فعارض الشيخ على هذا بقوة وأصر على أن تدفع الضرائب من طرف الأمراء أولا، فلقي هذا استحسانا من سيف الدين فطز قائد المماليك، هذا الأخير الذي هزم المغول في معركة عين جالوت سنة 658هـ/1260م، بدعم كامل من ابن عبد السلام، فكان انتصارا مدويا للمسلمين حطم أسطورة المغول، ليتوفى العز بن عبد السلام بعدها بعامين سنة 660هـ/1262م.
ولم يمض على هذا الكثير؛ حتى ظهر في نفس العصر عالم شامي أخر، وهو ابن تيمية الملقب بشيخ الإسلام والفقيه المجدد صاحب التصانيف الكثيرة في الرد على الباطنية والزنادقة والرافضة، وذلك في الوقت الذي عاد فيه الخطر المغولي إلى بلاد الشام في عهد المماليك أواخر القرن السابع للهجرة، فكان ابن تيمية أكبر العلماء محرضا على الجهاد ضد التتار، فقد “دخل الشيخ تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه، من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له، وهنئوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان ويستحثه على السير إلى دمشق"، فأجبر هذا الأخير على تجهيز جيش لملاقاة التتار، بضغط من العلماء وعلى رأسهم ابن تيمية، الذي تصدر الصفوف الأولى في معركة شقحب الفاصلة، والتي انتهت بظفر للمسلمين على المغول عام 702هـ.
ولم يكتف ابن تيمية بكل هذا، بل كان له مواقف حازمة مناهضة لسياسة الدولة المملوكية آنذاك، وهذا ما أدى به إلى محنة عاشها في أخر عمره، حيث اعتقل ومات في سجنه عام 728هـ/1328م، لكنه خلف وراءه تراثا عظيما.
كانت هذه نماذج لعلماء أجلاء –على سبيل المثال لا على سبيل الحصر-صنعوا تغييرا وخلفوا أثرا، كما أن تاريخنا مليء بأسماء أخرى لعلماء قادوا الإصلاح وخرجوا إلى تشكيل صحوة، فكافحوا بعلمهم وسلاحهم في سيبل كلمة الله والدين القيم، على عكس الكثير من العلماء في عصرنا الراهن، الذين تمادوا كثيرا في الفتاوى الجاهزة خدمة لقوى الاستبداد والاحتلال، .. لم يعرف التاريخ من هم على شاكلتهم من قبل.