الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الإمام محمد بن سيرين

الإمام محمد بن سيرين

 الإمام محمد بن سيرين

ابن سيرين تابعي كبير وإمام قدير عرف بالزهد والورع، وكان إمام عصره في علوم الدين، فقيهاً ومفسراً ومحدثاً وإماماً كثير العلم، وصارت له شهرة كبيرة وواسعة في مجال تفسير الرؤى وتأويل الأحاديث من خلال الكتاب والسنة مع فراسته التي أهلته للقيام بهذا العمل ببراعة كبيرة.
وكانت حياته حافلة بالصور الرائعة للأمانة والزهد والبر والتواضع، يقدم في حياته وسلوكه القدوة والنموذج للداعية الواعي والعابد المخلص والصديق الناصح والابن البار والعالم المجتهد والتاجر الأمين.
الميلاد والنشأة
ولد أبو بكر محمد بن سيرين البصري الأنصاري في خلافة عثمان بن عفان سنة 33 هـ، كان أبوه (سيرين) مملوكًا لأنس بن مالك الصحابي الجليل، وكان من نصيبه بعد معركة عين التمر وهي بلدة غربي الكوفة افتتحها خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق، فأعتقه أنس بعد مكاتبته.
وأمه اسمها (صفية) وكانت أمة لأبي بكر الصديق فأعتقها أيضًا، عرف أبوه وأمه بالصلاح وحُسن السيرة.
ولد الإمام ابن سيرين في البصرة ونشأ فيها، وترعرع في بيئتها العلمية، وتفقه على أيدي علمائها، وروى الحديث عن عدد من الصحابة والتابعين، وروى عنه الكثير من العلماء.
محمد بن سيرين محدثا
يعد ابن سيرين من أشهر محدثي البصرة وحفاظها في رواية الحديث ودرايته، وكان من المكثرين لرواية الحديث النبوي الشريف، لذلك كان يعتبر من أشهر من دارت عليهم الرواية في البصرة، ويكفي أنه قد أخرج أحاديثه أصحاب الصحيحين والسنن الأربعة.
وقد بلغ عدد مروياته في الكتب التسعة (874) حديثًا.
والكتب التسعة هم البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومسند أحمد وموطأ مالك والدارمي.
أدرك ابن سيرين ثلاثين من الصحابة، وروى الحديث عن بعضهم وعن بعض التابعين، فمن الصحابة الذين روى عنهم: أبو هريرة، أنس بن مالك، عبد الله بن عمر، وعدي بن حاتم، عمران بن حصين، وغيرهم.
ومن التابعين الذين روى عنهم: عَبيدة السلماني، مسلم بن يسار، وقيس بن عباد وغيرهم.
ومن الذين رووا عنه: قتادة بن دعامة، وأيوب السختياني، ويونس بن عبيد، وخالد الحذاء، وجرير بن حازم وغيرهم.

من عبادته
- كان ابن سيرين يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهذا أحب الصيام إلى الله وهو صيام داود، وكان دائم الذكر والدعاء لله، وكان له سبعة أوراد يقرؤها بالليل، فإذا فاته منها شيء قرأه في النهار، وكان يحيي الليل في رمضان.
- جعل ابن سيرين على نفسه كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار، وكان إذا مدح أحدا قال: هو كما يشاء الله، وإذا ذمه قال: هو كما يعلم الله.

ثناء العلماء عليه
نال ابن سيرين حب وثناء وتقدير الكثير من العلماء ممن عاصروه وممن جاءوا من بعده، وشهد له كثيرون بالفضل والزهد والورع والعلم والفقه.
فقال عنه الخطيب البغدادي في تاريخه: "كان ابن سيرين أحد الفقهاء المذكورين بالورع في وقته".
وقال عنه مورق العجلي: "ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين".
وقال ابن عون: "كان ابن سيرين من أرجى الناس لهذه الأمة وأشدهم إزراء على نفسه".
وقال عثمان البتي: "لم يكن بهذه البلدة أحد أعلم بالقضاء من محمد بن سيرين".
وقال خلف: "كان محمد بن سيرين قد أُعطي هديًا وسمتًا وخشوعًا فكان الناس إذا رأوه ذكروا الله".
وقال يونس بن عبيد: "أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما".
وقال محمد بن جرير الطبري: «كان ابن سيرين فقيهاً عالماً ورعاً أديباً كثير الحديث صدوقاً شهد له أهل العلم والفضل بذلك وهو حجة»
عن هشام بن حسان قال: حدثني أصدق من أدركت من البشر محمد بن سيرين.
وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأموناً عالماً رفيعاً فقيهاً إماماً كثير العلم ورعاً، وكان به صمم، أي: ثقل في سمعه.

بره بأمه

التاريخ مليء بنماذج من البارين بأمهاتهم من الصحابة والتابعين والصالحين، ومن هؤلاء ابن سيرين رحمه الله، فكيف كان يعامل أمه ويهاديها؟
لقد كان بارًا بأمه شديد اللين والتواضع لها، يخفض لها جناح الذل والرحمة حتى لا يُسمع له صوت بحضرتها ولا يكلمها إلا عن ضعف وخضوع.
- أمه اسمها صفية وكانت مولاة أبى بكر الصديق - رضي الله عنه - طيَّبها ثلاث من أزْواج النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودعوْن لها، وحضر إملاكها(زواجها) ثمانية عشر بدريًّا فيهم أبي بن كعب يدعو وهم يؤمِّنون".
- عن هشام بن حسان قال: حدثني بعض آل سيرين قال: ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع.
- وعن ابن عون قال: دخل رجل على محمد وعنده أمه فقال: ما شأن محمد أيشتكي شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
- وروي عن بره بأمه أنه كان يشتري لها من ألين الثياب، فإذا حل العيد كان يصبغ لها ثيابًا، فتروي حفصة بنت سيرين، كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوبا اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثيابا، وما رأيته رافعا صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها.

- والجزاء من جنس العمل فرزق الله ابن سيرين ببر ابنه عبد الله فعن عبد الله بن محمد بن سيرين قال: لما ضمنت على أبي دينه قال لي: بالوفاء، قلت: بالوفاء، فدعا لي بخير، فابنه وعده أن يقضي عنه دينه، فدعا له بخير، فقضى عبد الله عنه ثلاثين ألف درهم، فبورك له في رزقه لبره بأبيه وقضاء دينه.


براعة الإمام ابن سيرين في تعبير الرؤيا
علْم تفسير الرؤى موهبة يهبها الله من يشاء من عباده، ويعتمِد على الفراسة والذَّكاء والنَّظر في حال الرَّائي، وللمعبِّرين طرقٌ كثيرة في استخراج التأويل، باعتبار معرفة المعبِّر، وكمال حذقِه وديانتِه، والفتح عليه بهذا العلم، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.
وقد يَختلِف تعبيرُ الرؤيا نفسها من شخْصٍ إلى آخر، بِحسب القرائن التي تصحَب هذه الرؤيا، من حال الشخص وسماته؛ لذلك فلا يُمكن الاعتِماد على كتب تفسير الرؤى
وقد أعطي محمد بن سيرين رحمه الله علما وفهما في تفسير الرؤى وتأويل الأحاديث قال الذهبي رحمه الله: قد جاء عن ابن سيرين عجائب يطول الكتاب بذكرها، وكان له في ذلك تأييد إلهي.
نماذج
- جاءه رجل فقال: رأيت كأني أؤذن، فقال: في نيتك أن تسرق. وجاءه رجل آخر يسأل عن نفس الرؤيا الأولى وكان صاحب الرؤيا الأولى واقفا، فقال له ابن سيرين: سوف تحج.
فسأله جلساؤه: ما الفرق بينهما والرؤيتان سواء؟ فقال: رأيت الأول تبدو عليه ملامح الشر فأولت بقوله تعالى: «ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون»، ورأيت الثاني عليه دلائل الخير فأولت بقوله تعالى: "وأذن في الناس بالحج".
- وقال رجلٌ لابن سيرين: رأيت كأنِّي أحرث أرضًا لا تُنبت، قال: أنت تعزل عن امرأتك.
- وقال له آخر: رأيت كأنِّي أطير بين السماء والأرض، قال: أنت رجلٌ تُكثر المنى.
- وعن المغيرة بن حفص قال: سئل ابن سيرين فقال: رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا -يعني: كوكب الجوزاء سبق كوكب الثريا- فقال: هذا الحسن يموت قبلي ثم أتبعه وهو أرفع وأعلى مني منزلاً.
وفاته

توفي ابن سيرين بالبصرة في 9 من شوال سنة 110هـ وله من العمر 77 سنة، بعد وفاة الحسن البصري بمائة يوم وقبره بجانبه قبر الحسن في البصرة.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

من ذاكرة التاريخ

أبو المعالي الجويني إمام الحرمين

الإمام الجويني أحد كبار أئمة المذهب الشافعي، مجمع على إمامته متفق على غزارة علومه وتفننه فيها. قضى معظم حياته...المزيد