الفرص الضائعة

0 959

في صباح يوم ربيعي مشمس من أيام شهر نيسان. خرجت مع صديق لي إلى حقله الكائن بين حقول الحمضيات في الجبل المطل على مدينتنا الساحلية الهادئة. كان الجبل مكسوا بالأزهار المتفتحة على أشجار الحمضيات، حتى لكأنك لا ترى إلا الأزهار على مدى نظرك. لم يكن قد مضى على تخرجي في كلية الاقتصاد سوى أشهر معدودات أمضيتها في السفر والتسكع في عدة أماكن وكأني أريد استراحة من عناء شديد.
المنظر جميل ساحر، أوقفني بصمت وذهول أمام هذا الجمال الطبيعي الخلاب. ولم أنتبه للوقت وهو يمضي، وصديقي يتفقد خلايا النحل التي يربيها ويعتني بها، وخاصة أن موسم أزهار أشجار الحمضيات ينبئ بمحصول وافر من العسل اللذيذ الذي يحمل طعما مميزا تشعر بأنه ممزوج بطعم البرتقال والليمون.
مضت عدة ساعات وصديقي مشغول بالعناية بخلاياه، وأنا مذهول بجمال الطبيعة وسحر منظرها وشذى عبيرها. كانت الجبال والوديان جميعها ملأى بالأزهار والأعشاب النظرة المشبعة بماء المطر المنهمر طيلة الأيام الماضية من شهر نيسان.

لم أشعر إلا بصديقي ينبئني بموعد النزول إلى البلدة الوادعة على شاطئ البحر، لكيلا يدركنا الليل المعتم وتتقطع بنا السبل، حيث لا وسيلة للتنقل بعدها إلا مشيا على الأقدام. وافقته النزول على شرط أن نعود في اليوم التالي في مثل الموعد الذي أتينا به. فأبدى استعداده الطبيعي، لأن هذا عمله شبه اليومي الذي يجني منه رزقه. ونزلنا إلى مكان مأوانا حيث تناولنا طعاما ساخنا لذيذا، وشربنا الشاي حول مدفئة مشعلة بنار الحطب وبقايا الزيتون المطحون بعد عصره واستخلاص زيته.
يا بني! لا تعترض على فعل الله فينا، فهو لم يرسل إلا بشرى خير لنا لكي تنزاح عنا الثمار الضعيفة التي لو بقيت لتغذت على أمها الشجرة ولحرمت غيرها من الغذاء والنمو السليم الكامل
ثم شعرنا بالرياح تشتد حولنا خارج المنزل. فقال صديقي: عواصف شهر نيسان التي لا تلبث أن تزول خلال ساعتين أو ثلاث. فنمنا بعمق وهدوء بسبب الإشباع والانتعاش من الهواء الطلق الذي تشربناه بلذة ونقاء طيلة اليوم. خرجنا مع شروق الشمس، وركبنا أول وسيلة مواصلات وجدناها من الوسائل التي تنقل الفلاحين يوميا إلى الحقول والقرى المجاورة. كان الجميع يتحدث بهدوء وفرح وطمأنينة إلا أنا الصامت المتأمل في يوم أقضيه بين الأزهار الساحرة الممتدة على مدى البصر، والتي تملأ الجبال والوديان بمختلف الألوان والروائح الزكية.

ترجلنا في مكاننا المخصص، وكانت النظرة الأولى كافية لكي تجعلني أشعر بالصدمة المفاجئة الصاعقة. نظرة أذهلتني وأخرستني عن الكلام.. لقد زالت غالبية الأزهار من على أغصان الأشجار المورقة والمزهرة. كانت عاصفة أمس العاتية ­رغم قصر مدتها­ هي السبب في مجزرة الزهور تلك. رياح مزمجرة لم تبق ولم تذر من الزهور إلا القليل القليل الذي لا يتجاوز العشر. وقفت محزونا على منظر البارحة الساحر، أراقب المنظر الجديد بتحسر وألم، خالطه عمل عقلي بحت يحسب بطريقة اقتصادية مادية بحتة، كم من الخسائر لحقت هؤلاء الفلاحين المساكين!؟
إن كل زهرة تتحول إلى ثمرة من البرتقال أو الليمون أو اليوسفي، وضياع هذه الزهرة هو ضياع للثمار ذاتها، وبالتالي فقدان وخسارة لبعض المحصول وبعض المال المرجو منه، فما بالك بفقدان جل المحصول والمال الموعود. إنها خسارة للفلاح، وخسارة للاقتصاد الذي ينتعش كلما زاد الإنتاج الزراعي.. هكذا كنت أفكر.

فجأة ألقى علي السلام رجل عجوز من فلاحي تلك المنطقة، فرددت عليه بشيء من الحزن والأسى. كان سبعينيا هميما يحمل عصاة لا يتوكأ عليها بل يشير بها عند لفظ كل كلمة يتكلمها. استلم هو ناصية الحديث بادئا بشكر الله على نعمة الإيمان والحياة والستر وباقي النعم التي يعجز عن عدها. هنا قاطعته فورا وبلهجة حزينة متأنية وكأنها تعتذر عن ذنب أحدثته.
قلت له: يا عم! عوضكم الله عما خسرتموه ليلة أمس؟
قال: وما الذي خسرناه ليلة أمس يا بني؟
قلت: الرياح التي أذهبت جل محصولكم، ونهبت ثماركم المرجوة.
قال: لم أفهم ماذا تقصد يا بني؟ أي خسارة، وأي رياح؟
أحرجني كلامه، فكيف لي أن أشرح لهذا الفلاح الأمي المسكين الذي يبدو أنه لم يدرك الكارثة التي حلت به.
قلت بهدوء: يا عم! أتيت بالأمس إلى هنا وكل الأشجار ملأى بالأزهار اليانعة النضرة، وكل زهرة تتحول إلى ثمرة. أي أن محصولكم من الحمضيات كان مذهلا ووفيرا، حتى جاءت عاصفة الليلة الماضية ونزعت من الأشجار جل أزهارها، وحرمتكم جل محصولكم الوفير. أليس كذلك؟ أليس هذا ما حدث ليلة أمس؟
قال الفلاح في هدوء: يا بني! ولماذا أنت حزين ومشفق علينا؟
قلت لأن خسارة مالية كبيرة قد وقعت بكم، وخسارة اقتصادية حقيقية قد وقعت باقتصاد بلدنا كله.
قال الفلاح: يا بني! إن رياح الأمس رزق ساقه الله إلينا! فنحن في كل عام، وفي هذا الوقت بالضبط، وبعد تفتح الأزهار كلها، ننتظر هذه العاصفة المباركة لكي تنتزع كل الأزهار الضعيفة وتبقي فقط على الأزهار القوية الثابتة التي ستصبح ثمارا غضة ناضجة.

هناك فرص ضائعة، ولكن أيضا هناك فرص يجب أن تضيع. فتبا لعلم اقتصاد، لا يعلمنا إلا الاهتمام بالكم ولو على حساب النوع. وحينها نخسر الكم والنوع معا
قلت له: لم أفهم، ماذا تقصد؟
قال: لو أن كل زهرة من أزهار أمسك الجميل تحولت إلى ثمرة، لعجزت الشجرة عن حملها كلها وتغذيتها بالشكل الأنسب لها. ولكن عاصفة الأمس تنزع كل الأزهار الضعيفة التي لو بقيت لأنتجت ثمارا ضعيفة تثقل الشجرة ولا ننتفع من بيعها بشيء.
أما الآن، وبعد زوال كل زهرة ضعيفة، فقد بقيت الزهرات القوية التي تتشبث بأمهاتها بصلابة ومتانة، فتنشأ ثمارا كبيرة ناضجة ذات طعم وشراب لذيذين، فنبيعها بأعلى الأسعار ونربح وافر الربح.
يا بني! - تابع الفلاح قائلا - لا تعترض على فعل الله فينا، فهو لم يرسل إلا بشرى خير لنا لكي تنزاح عنا الثمار الضعيفة التي لو بقيت لتغذت على أمها الشجرة ولحرمت غيرها من الغذاء والنمو السليم الكامل.
إن ما رأيته مصيبة لنا، ما هو إلا فرصة ذهبية وهبت لنا لكي نزداد ثراء ووفرة.
هذا الفلاح علمني من الجاهل المسكين فينا.
هذا الفلاح علمني ما لم تعلمني إياه كلية الاقتصاد كلها.
هذا الفلاح علمني درسا في الاقتصاد لن أنساه طيلة حياتي.

هناك فرص يجب أن تضيع، لتترك المجال لفرص أخرى يجب أن تأتي، ولكن بشرط أن يتهيأ لها الظرف المناسب، ولولا ضياع الأولى ما كانت الثانية لتأتي. نعم هناك فرص ضائعة، ولكن أيضا هناك فرص يجب أن تضيع. فتبا لعلم اقتصاد، لا يعلمنا إلا الاهتمام بالكم ولو على حساب النوع. وحينها نخسر الكم والنوع معا.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة