يوسف وامرأة العزيز

0 1007

بلغ يوسف عليه الصلاة والسلام أشده، إلا أنه لم يجعل بلوغ أشده في اللغو والعبث، ولا في المجون والرفث، بل أحسن إلى نفسه ترقيا في مدارج السالكين إلى الله، والتماس السعادة بطلب محبته ورضاه، فكافأه الله على ذلك بأن آتاه الحكمة والعلم فقال سبحانه: {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين}[يوسف:22].

وبلوغ الأشد يدل على وصول الشاب إلى منتهى شبابه وقوته.. فهو إما أن يبدأ من الحلم ـ كما قال البقاعي ـ أو من سن العشرين ـ كما قال ابن عباس. وقال بعضهم: الثالثة والثلاثين.. وقول ابن عباس أقرب لحال امرأة العزيز التي قد أخذها سعار الشهوة،  فإن مثلها لا ينتظر مجاوزة العشرين إلى الثالثة والثلاثين لشاب أمامها بلغ من الحسن منتهاه، وهو يزداد مع تنقل مراحل أشده حسنا في أجمل منظر وأبهاه.

إلا أن هذا الشاب الرائع كان في شغل عن رغبتها وطلبتها، فهو يزداد من الله قربا وعن الآثام بعدا؛ فيكافئه الله بإيتائه الحكم والعلم، والحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها، ومنعها مما يشينها، فابتعد عن مواطن الشبه والشهوات كما اقترب من الأفعال التي ترضي رب الأرض والسموات – وهذا من الحكم والتحكم بنفسه وأهوائها- فكافأه الله وآتاه العلم ليأنس بربه، ويطمئن بخالقه لسان حاله: 
هــات مــا عندك هات يا زمان الأزمـــات
أنا لا أخشــاك فانــثر كل ما في الجــعبات
وارم من نــبـلك ما شـئت فلــن تثني قناتي
هل ترى الإعصار يوما هز شم الراسيات
أنــا محـمي بـــدرع مــن يـقــيــن وثبــات
مـعــي الإيمـــان يهـــديني ببـحر الظلمات
معي الإخلاص ينجي مركبي والموج عات
أنــا بالله عـــزيــز عـــزتي في سجـــداتـي
أنـــا لــلــه ولـــي لا لــعــزى أو مـــنـــــاة
أنا عـبـــد الله لا عـبد الهـوى والشـهــوات

 بدايات المكر الكبار:
حاولت (التي هو في بيتها) مرارا إثارة الغريزة البشرية في نفس الشاب الذي بلغ أشده، مستغلة ظن زوجها ـ والمجتمع من حولها ـ أنها تعامله معاملة الأم، فأبى.. فظلت تراوده، وهي كلمة تدل على محاولات هائلة من قبلها لإغوائه وإغرائه، وهو في كل ذلك لا يلتفت، وينسل بلطف من أفخاخ الفجور، وشرك الخطوات الشيطانية.

ويصور الرافعي – رحمه الله تعالى- ذلك قائلا: "هذه ملكة تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس؛ ولكن أين ملكها وسطوة ملكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت: {وراودته التي}، و{التي} هذه كلمة تدل على كل امرأة كائنة من كانت؛ فلم يبق على الحب ملك ولا منزلة؛ وزالت الملكة من الأنثى!

وأعجب من هذا كلمة {وراودته} وهي بصيغتها المفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة جعلت تعترض يوسف بألوان من أنوثتها, لون بعد لون؛ ذاهبة إلى فن، راجعة من فن؛ لأن الكلمة مأخوذة من رودان الإبل في مشيتها؛ تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها؛ ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها؛ كما يصور كبرياء الأنثى إذ تختال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي كأنما الكبرياء شيء آخر غير طبيعتها؛ فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا "الشيء الآخر" مظهر امتناع أو مظهر تحير أو مظهر اضطراب، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة.

ثم قال: {عن نفسه} ليدل على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية، فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكأن الآية مصرحة في أدب سام كل السمو بعفة هذا الشاب المؤمن التقي الورع، منزهة له غاية التنزيه بما معناه: "إن المرأة بذلت كل ما تستطيع في إغرائه"، إلا أن الشاب المحسن منذ نعومة أظفاره في اعتصام دائم بربه، وانتصار عظيم على حبائل الشيطان، وهذا من أعظم ما يقرب نظر الله لعبده – نظرا بالمعنى الخاص- ليتخذه ربه له وليا، ويقربه نجيا، وعند أحمد عن عقبة بن عامر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل ليعجب من الشاب ليست له صبوة).

وغلقت الأبواب
وصلت هذه المرأة إلى آخر وسيلة لتحقيق مرادها، وتنفيذ رغبتها الآثمة فغلقت الأبواب..ولم يقل الله تعالى (أغلقت) بل {غلقت} والكلمة لها قوتها وجرسها الدال على شدة حرصها على سد أي مكان يمكن له الهرب منه، أو يمكن لمن في الخارج الاطلاع على ما يحدث في الداخل، وهذا يشعر أنها لما يئست، ورأت منه محاولة الانصراف والتمنع والتعفف، أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالا عدة، وتجري من باب إلى باب، وتضطرب يدها في الأغلاق، كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط، وإغلاقها الأبواب لا لمنع الخارج من الدخول فحسب بل لمنع الداخل من الفرار، وهي صورة عجيبة تدل على مدى شعورها بنفرة الشاب من حمأة الشهوة المحرمة التي تردت فيها هذه المرأة، كما تدل على مكرها الكبار وظنها أنه عندما أحكمت الإغلاق فإن الشاب لن يجد سبيلا للفرار فتخور قواه، ويضعف أمام غواية الفجار، وسيلين أمام قوة الشهوة الجسدية.
إن تفكيرها فقط يدور حول ذلك.. لم تعلم أن هناك أنوارا ربانية تحرس المخلصين، وحصنا من خشية الله تعالى يحمي المحسنين.

وقالت هيت لك
ثم فجأته بظهورها في زينتها، وأغرته بتبرجها وبحركاتها، ويا لحركات الأنثى إذا استشرفها الشيطان وغاب عنها خوف الرحمن، لكن الشاب ظل على استعصامه بربه، وخوفه من خالقه، فأحبطت وقامت تصرح بما ظنت أن جسدها ينوب عنها في الكلام، ويقطع من المتمنعين الفرار والاعتصام، فقالت: تهيأت لك لتصنع ما شئت.

ويصور الرافعي عظمة يوسف عليه الصلاة والسلام هاهنا فيقول: "ومعناها في هذا الموقف أن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده، فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة، متكشفة مصرحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد اهتياجها وغليانها.

هذه ثلاثة أطوار يترقى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنوثة نازلة من أعلاها إلى أسفلها. فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها ولم يبق وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه".

رابعا: (معاذ الله)
لما ضجت جدران البيت من هذه الجرأة الآثمة بقول امرأة العزيز {هيت لك}، لجأ يوسف –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- إلى معالجة الأزمة العظيمة التي تريد امرأة العزيز الإيقاع به فيها، فلجأ هو كذلك إلى التصريح بأعظم ما يعصمه، والبيان بأقوى العبارات التي تحميه، فقال: {معاذ الله} فقد هداه الله تعالى ليبين لنا أعظم الوسائل فعالية لمعالجة مثل هذا الخطر: التصريح والتكرير بما يدور في النفس وما يجول به التفكير، فلا يقف الإنسان صامتا يظن أن مجرد الشعور بحرمة مثل هذا الفعل المجرم كافيا للحماية من حبائل الشيطان، فهنا ازداد ظهور عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف: {معاذ الله} لينبه ضمير المرأة في المرأة، وليؤكد على معاني اليقين والخوف من رب العالمين في نفسه، وطلب حماه من عبث الشياطين، وهذه الكلمة المباركة مفتاح لكل عصمة، تلوح بها أعظم رحمة ونعمة.

ونساء الأرض لما أن بدت .. .. أقبلت نحــوي وقالت لي: إلـيا
فتعاميـت كــأن لم أرهــــــا .. .. عندما أبصرت مقصودي لديا
كيف ألقى الله ربي آثمــــــا .. .. يوم حشـر الناس إذ غلت يديا
بئســت اللــذة إن كان بـهـا .. .. غضب الجبــار والسخط عليا
فمعــاذ الله هــاذي صــيحة .. .. قالــها يوسف.. قلــها يا أخـيا

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة