الشباب.. ودار الغرور

0 788

فقد اتفقت كلمة أهل الإسلام على أن القلوب تمرض كما تمرض الأبدان، غير أن أمراض القلوب أشد ضررا، وأعظم خطرا، وأكبر أثرا من أمراض البدن؛ فغاية مرض البدن أن يمنع صاحبه عن الحياة الدنيا، وأما مرض القلب فيقطعه عن الله وعن الفوز في الدار الآخرة.

وإن من أعظم أمراض القلوب ذاك الداء العضال، والمرض الفتاك، والوباء المنتشر الذي أصاب أكثر الناس مع أنهم عنه غافلون وإليه لا يلتفتون.. إنه طول الأمل:
قال بعضهم: هو الحرص على الدنيا، والانكباب عليها مع كثرة الانصراف عن الآخرة.
وقال آخرون: هو تعلق القلب بالحياة، وانشغاله بأمرها وزخارفها ووظائفها عن وظائف العبودية وأعمال الآخرة.
وقال بعضهم: دوام الغفلة، وكثرة التسويف في التوبة.

وهذا في الحق ليس طول الأمل، وإنما هو نتائج وعواقب طول الأمل..
أما طول الأمل فيمكن أن نقول عنه: توقع امتداد العمر، والطمع في البقاء، والتغافل عن إمكانية قرب الموت.
فتمنيه نفسه بطول العمر وامتداد الحياة وطول البقاء، وبعد الانتقال.

فإذا أصاب الإنسان هذا الوباء ودخل القلب ألهاه عن الله وعن الدار الآخرة.
كما قال تعالى : {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون * ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم}(الأنبياء:1ـ3)، وقال عن الكافرين: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل}(الحجر:3). قال القرطبي : يلههم الأمل: يشغلهم عن الطاعة.
والمعنى أنه ليس كل أمل مذموم، فلولا الأمل لمات الناس، ولما تهنى أحد بعيش، ولما طابت نفس أن تعمل بشيء من عمل الدنيا أبدا. وإنما المذموم الاسترسال فيه، وتمنية النفس بطول العمر وامتداده حتى يحمله ذلك على عدم الاستعداد للآخرة.

إن الإنسان إذا ابتلي بهذا البلاء، ودخل قلبه هذا الوباء، تعلق قلبه بالدنيا، وتمسكت نفسه بها، فلا يطيق عنها ارتحالا ولا منها انتقالا، ونظر إليها على أنها دار بقاء لا دار فناء، وأنها منزل حبور لا دار غرور، وموطن اطمئنان لا دار ابتلاء وامتحان.. فهو مخدوع بمظاهرها، مشغول بظواهرها، مفتون بشهواتها وملذاتها وزخارفها، ملهي بسفاسفها، مصروف عن إدراك حقائقها، وأنها سراب خادع، وبريق لامع، ولكنها سيف قاطع، وصارم ساطع. هي والله كالصديق الخؤون الذي لا يبقى على صديق.. وكالغانية اللعوب التي لا تفي لمحبوب.

كم أحبها أناس وتعلق بها أناس، وعشقها أناس، وتفانى في حبها أناس، وبذل من أجلها أناس، حتى ظنوا أنهم ملكوها، وأنهم صاروا لها وصارت لهم، فلما رأتهم قد اطمأنوا إليها وهاموا بها، عركتهم بثفالها وطحنتهم برحاها، وجرعتهم الكأس الذي أذاقته كل الذين كانوا من قبلهم؛ فنقلتهم من الحبور والسرور وسعة القصور إلى ضيق اللحود والقبور، ومن لين الفراش والمهاد إلى الجنادل والتراب، ومن مجاورة الزوجة والأولاد والخلان، إلى مجاورة العراء والحشرات والديدان. فما وجدوا من الموت حصنا ولا منعة ولا عزا.. فأصبحوا ـ في لحظة ـ أسرى أعمالهم، ورهن تقصيرهم، لم ينفعهم ما جمعوا، ولا أغنى عنهم ما كسبوا.. بل أوبقهم حب الدنيا وطول الأمل.

فسائل نفسك: أين الأولون والآخرون؟ أين الذين ملؤوا ما بين الخافقين فخرا وعزا؟ أين الذين فرشوا القصور حريرا وخزا؟ أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزا؟ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟

لا تغتروا بالدنيا
أيها الشباب أيها الأحبة أيها الناس: إن الدنيا أيام محدودة، وأنفاس معدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة، هي والله قصيرة، وإن طالت في عين المخدوعين بزخرفها، وحقيرة وإن جلت في قلوب المفتونين بشهواتها.
وإنما مثلنا فيها كمثل نملة كانت تجمع حبة لتأكلها في قادم الأيام، فجاء عصفور فأخذ النملة والحبة، فلا ما جمعت أكلت ولا ما أملت نالت.. {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}[فاطر:5]، {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار}[غافر:39].

إن الدنيا إلى زوال وانتهاء، كتب الله عليها الفناء وكتب على كل من فيها الانتقال عنها، وإنما نحن فيها على جناح سفر يوشك أن نبلغ.
قال علي رضي الله عنه: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".

وخطب عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد.. فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك مقرها. ووالله لتملأن".

وخطب عمر بن عبد العزيز الناس فقال: "أيها الناس، إن الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها فيها الظعن، فكم من عامر عما قليل يخرب، وكم من مقيم عما قليل يظعن".

وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال لأصحابه: "الدنيا قنطرة، اعبروها ولا تعمروها". وقال: "من ذا الذي يبني على موج البحر دارا، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا".

وقال الإمام النووي:
إن لله عـــبادا فطـنا .. .. طلقوا الدنيا وخافوا الفـتنا
نظروا فيها فلما علموا.. .. أنها ليست لحـي وطــنا
جعلوها لجة واتخذوا .. ..صالح الأعمال فيها سفنا

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة