خاطرك وخاطر العلامة ابن الجوزي.!

0 599

• الخاطر : هو ما يخطر بالقلب من أمر، أو رأي، أو معنى، ويطلق على القلب أو النفس مجازا.
• وللعلماء والقراء خواطر تشع بالعلم والفوائد والنوادر والأشعار والمؤلفات والعبقريات والابتكارات.
• والخاطر يكون غالبا صدى للمخزون الثقافي والعلمي والتجاربي الذي جمعه المرء من سنوات أو عقود.
فكلما اتسعت المعلومات اتسع الخاطر حسنا وحذقا وجمالا، وكانت مخاريجه عجائب وروائع وشوارد، قال المتنبي في تمجيد قريحته المتدفقة:
أنام ملء جفوني عن شواردها ....ويسهر الخلق جراها ويختصم
• فرب شاعر أفرز خاطره درر المطالع، وعالم أفاض روائع المسائل والاستنباطات، وحكيم أورق طيب الحكم، وواعظ نثر حلو المواعظ والتراتيل.
• فجاءنا العلامة أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله بكتابه الماتع الجميل بعقله ورأيه الذي كنزه في كتابه (صيد الخاطر)، فعلمنا فنون الخواطر، وضرورة تقييدها، وكيف أنها قد تغزر بطيب الكلم والحكم.
• قال في مقدمته : " لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر، لكي لا ينسى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: [قيدوا العلم بالكتاب]، وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته، فيذهب، فأتأسف عليه ! ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدا لصيد الخاطر، والله ولي النفع، إنه قريب مجيب" .
• فهو يؤكد في مقدمته نفاسة ما يعرض له، والتأسف على ذهابه وكانت الحكمة تقييده والمحافظة عليه ، واستدل بالحديث المشهور في ذلك.
• واستدلاله بالحديث يؤكد أنها خواطر مردها للعلم في الغالب، وأنها تأتي من خبرة العالم وطول تجاربه الفكرية والتأملية في العلم والناس والحياة.
• وهي تؤكد أن العالم مهما نبغ وانشغل، لابد له من ساعات للتفكر، سماها (بصر التفكر) يحسها ويعايشها، حتى يستخرج منها عبر الفرائد، ودروس الاستنباط، وتوجيهات المواقف، ومخرجات اللقاءات، كأوقات يخصها بالتأمل الفقهي الاعتباري، أو ساعات الفراغ والاسترخاء اللاهث وراء الارتياح من عناء ومتاعب وجلد.

• ونبه أن الخاطر أفكاره غير مستقرة، وسريعة الانقضاء، والواجب تلقفها بسرعة قبل البكاء عليها، والتألم لفقدانها، وكلما اتسعت ضخامة المعلومات والمعارف التحصيلية للطالب، كان خاطره أكثر ثراء وإنتاجا، وأشغل صاحبه بكثرة التقييد والتسجيل، وأن تأجيلها لوقت آخر ولو يسيرا، ربما فقدها، وغابت في مراتع النسيان.
• ولذلك كان العباقرة الذين يتفجرون علما وفوائد وخواطر ذهبية، يحملون أقلامهم وقراطيسهم في كل مكان، لئلا يفوتهم شيء، أو تغادرهم حكمة، تشع إشعاعا، أو تتعالى حسنا وجمالا.
• والعلماء من أخص الناس وأحظهم بالفكرة وروائعها، لا سيما (الفقهاء)، أولي البصائر والاستنباط ، ومن ذلك قول العلامة المدقق ابن عقيل الحنبلي رحمه الله صاحب الفنون :(إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أعمل فكري في حال راحتي، وأنا منطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره) .

• وكتابه(الفنون) الضخم المجلدات، الفخم التقريرات : أساس في الخاطر العلمي، وقد مدحه أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، فقال:(وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى "بالفنون" مناطا لخواطره وواقعاته، من تأمل واقعاته فيه، عرف غور الرجل..)، وفي مدح ذلك وتعظيمه قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : (الفكرة مخ العقل).
• وفي عالم التقنية الحديثة، باتت الجوالات مخزونا لذلك الثراء الفكري والإنتاج العلمي، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) سورة إبراهيم .

من روائع ابن الجوزي في صيد الخاطر:
•  "من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دنيء"
• "المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مفلسا، مع قوة الحجة عليه.
• " عجبت لمن يتصنع للناس يرجو التقرب من قلوبهم، ونسى أن قلوبهم بيد الله ".
• " ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز"

• " ومن الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا، فهمهم صعود وترق، كلما عبروا مقاما رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا"
• " ينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده؛ إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال. وليجتهد في مجالسة العلماء، والنظر في الأقوال المختلفة، وتحصيل الكتب، فلا يخلو كتاب من فائدة، وليجعل همته للحفظ، ولا ينظر ولا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ".
• "اصبروا ، فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات، وإن كانت مدموغة، وللباطل جولة، وللحق صولة "
• "لا ينال لذة المعاصي إلا سكرانا بالغفلة"
• "ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق"

•"تأملت على أكثر الناس عباداتهم، فإذا هي عادات، فأما أرباب اليقظة، فعاداتهم عبادة حقيقية، فإن الغافل يقول سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان الله "
• "رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة، لأني أشافه في عمري عددا من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقا لا تحصى ما خلقوا بعد. ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدون من مشايخهم "
• "لا ينبغي أن تعادي أحدا، ولا تتكلم في حقه ، فربما صارت له دولة فاشتفى، وربما احتيج إليه فلم يقدر عليه، فالعاقل يصور في نفسه كل ممكن، ويستر ما في قلبه من البغض والود، ويداري من يكنون له الغيظ والحقد، هذه مشاورة العقل إن قبلت"

• "من المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده"
• "إياك والتأويلات الفاسدة، والأهواء الغالبة؛ فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها جرك الأمر إلى الباقي، ولم تقدر على الخروج لموضع إلف الهوى"
• "من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه "

والكتاب لا يزال غاصا بالفوائد النيرات، والحكم الطيبات، والتجارب العجيبات، فجزى الله مؤلفه خير الجزاء، وفي ما اخترناه تذكرة وعبرة، والله الموفق .
_____________
المقال بـــ"باختصار وتصرف"

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة