نشأة النحو العربي (البدايات) (1)

0 686

وبعد فهذه نبذة مختصرة عن نشأة النحو جمعتها من عدة مصادر، وتشتمل على ظهور اللحن، وجهود أبي الأسود الدؤلي مؤسس هذا العلم، وأذكر المذهب البصري والكوفي، ومنهج كل منهما مع بيان أسباب الخلاف بينهما .
فأقول وبالله التوفيق:
إن مكة المكرمة كانت مزارا يحج إليها العرب كل عام وكانت لقريش السيادة في الجاهلية بسبب ما آل إليها من السقاية والرفادة أي سقاية الحجاج وإطعامهم والقيام بخدمة البيت .
وفي مكة المكرمة وما والاها تقام الأسواق التي كان من أشهرها (سوق عكاظ) موقع بين نخلة والطائف و (سوق ذي المجاز) ويقع في شرق مكة المكرمة ويبعد عنها مسافة - 21 كم - تقريبا و (سوق مجنة) هي بفتح الميم وكسر الجيم وتشديد النون كما في فتح الباري ( 3 / 594 ) وقد تكسر ميمها كما في القاموس المحيط ( 4/212 ) و يقع في مر الظهران - وادي فاطمة قرب جبل يقال له الأصغر، وأنها على أميال يسيرة من مكة - وقيل - سوق بأسفل مكة على بريد منها - وكانت القبائل تجتمع في هذه الأسواق كل سنة للتجارة ففي صحيح البخاري حديث رقم ( 1770 ) قال عمرو بن دينار قال ابن عباس رضي الله عنهما كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) أي في مواسم الحج اهـ

وفي مسند الإمام أحمد ( 3/322 ) عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : [مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة] من حديث طويل صححه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 1 / 93-94/ رقم 63 )

وكان الشعراء يلتقون في هذه الأسواق للتفاخر والتهاجي ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ففي هلال ذي القعدة يقام (سوق عكاظ) ثم يقام (سوق مجنة) ثم يقام سوق (ذي المجاز) وكانت العرب ترحل إليه بعد فراغها من سوق (مجنة) لقربه من جبل عرفات حيث يقيمون فيه حتى يبدأ موسم الحج فيدخلون مكة لحج البيت الذي يعظمه جميع العرب .

قال ابن حجر في الفتح ( 3/594 ) وروى الزبير بن بكار في " كتاب النسب " من طريق حكيم بن حزام أن سوق عكاظ كانت تقام صبح هلال ذي القعدة إلى أن يمضي عشرون يوما، قال : ثم يقام سوق مجنة عشرة أيام إلى هلال ذي الحجة، ثم يقوم سوق ذي المجاز ثمانية أيام، ثم يتوجهون إلى منى للحج.

فأصبحت لغة قريش أغنى اللغات العربية وأشملها وأعذبها وأقدرها على تصوير المعاني المختلفة بسبب توافد القبائل العربية من شتى البلدان كل عام بعضهم للتجارة والبعض الآخر للتفاخر والتهاجي وتسابق الخطباء والشعراء في استعمال لغة قريش ونقلوا الكثير منها إلى قبائلهم فانتشرت في الجزيرة العريبة وسادت بتلك اللغة المنتقاة ولم يختلط العرب بغيرهم من العجم قبل الإسلام إلا النزر القليل من أجل بيع أو شراء وكانت الألفاظ التي يستعملونها لا تخرج عن أسماء السلع وأدوات القتال وغيرها من الألفاظ التي لا تأثير لها في لغتهم التي تجري في كيانهم مجرى الدم في العروق. 
وحين نزل القرآن الكريم على نبي الرحمة والهدى محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – كانت لغتهم جميعا أي العرب في الجاهلية عربية فصيحة صافية نقية من الشوائب.

فلما سطع نور الإسلام وانتشر خارج الجزيرة العربية ودخل الناس في دين الله أفواجا اضطر العرب للإختلاط بغيرهم من الأعاجم في سائر الأمصار وتطلب هذا أن يفهم بعضهم بعضا من أجل التجارة والمنافع والتعليم وغير ذلك فسمع العرب من الأعاجم والعكس فنتج عن هذا التخاطب والإصغاء بين الطرفين فساد في اللغة وظهر اللحن وشاع بين أوساط الناس، فهب ألوا الأمر من المسلمين ينظرون في اللحن ويحذرون منه.

فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : [سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قرأ فلحن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدوا أخاكم] صححه الحاكم ووافقه الذهبي كما في المستدرك (2/439) وضعفه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الضعيفة ( 2/315 ) رقم ( 914 ) لجهالة من روى عن أبي الدراء .
وفي معجم الأدباء أيضا ( 1/23 ) "وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب أولاده على اللحن"
وروى الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي ( 2/28 ) رقم ( 1081 ) "أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يضرب الحسن والحسين على اللحن"
" وكان ابن عمر رضي الله عنه يضرب ولده على اللحن" صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد صفحة  (328) رقم  (676)
وفي معجم الأدباء للحموي ( 1/23 ) (عن الخليل بن أحمد، قال: سمعت أيوب السختياني يحدث بحديث فلحن فيه فقال: أستغفر الله؛ يعني : أنه عد اللحن ذنبا) إهـ
فهذه الأمثلة تدل على أن الأوائل كانوا ينظرون في اللحن ويحذرون منه ومن هنا خاف أولوا الأمر أن يتسرب هذا اللحن إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ففكروا في وضع قواعد يهتدى بها لحفظ اللغة العربية من خطر اللحن تكون نبراسا يرجع إليه فبرز إلى الوجود هذا (النحـو) .
ومما لا شك فيه أن ظهور اللحن وانتشاره وزحفه إلى القرآن الكريم والحديث النبوي هو الباعث على تدوين هذا النحو .

اختلاف العلماء في من أشار بوضع النحو
1- قيل الذي ابتدأ هذا العمل هو أبو الأسود الدؤلي بإشارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

2- وقيل بإشارة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنه دفع إلى أبي الأسود رقعة كتب فيها (الكلام كله اسم وفعل وحرف فالاسم ما أنبا عن المسمى والفعل ما أنبئ به والحرف ما افاد معنى وقال له انح هذا النحو وأضف إليه ما وقع إليك) ومن حينها سمي بالنحو.

3- وقيل بإشارة (زياد بن أبيه) وكان أبو الأسود معلم أولاده وهو والي العراق حينئذ.
وقيل إن أبا الأسود هو الذي بدأ هذا العمل بنفسه حين قالت له ابنته (يا أبت ما أحسن السماء) فقال : أي بنية (نجومها) فقالت له (لم أرد أي شيء أحسن ؟ وإنما تعجبت من حسنها . فقال إذن فقولي : (ما أحسن السماء) وبسسب هذا اللحن وضع كتابا.
ومهما قيل فالنتيجة المؤكدة أن أبا الأسود (ظالم بن عمرو الدؤلي) هو الذي بدأ هذا العمل سواء بإشارة من عمر ابن الخطاب أو علي بن أبي طالب أو(زياد بن أبيه) أم بتفكيره هو .
لكن أبا الحسن القفطي في كتابه إنباه الرواة (1/39/41 ) يرجح أن أول من وضع النحو هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال : ( الجمهور من أهل الرواية أن أول من وضع النحو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثم قال : وأهل مصر قاطبة يرون بعد النقل والتصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبى طالب - كرم الله وجهه - وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي ) إهـ ولعل ما نقله في إنباه الرواة ( 1/50 ) ( أنه قيل لأبي الأسود من أين لك هذا العلم ؟ ـ يعنون النحو ـ فقال : لقنت حدوده من علي بن أبي طالب يرجح كفة علي رضي الله عنه ) اهـ
وقال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري في أول كتابه نزهة الألباء في طبقات الأدباء : صفحة ( 17 ) ( اعلم أيدك الله بالتوفيق وأرشدك إلى سواء الطريق أن أول من وضع علم العربية وأسس قواعده، وحد حدوده، علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي ) إهـ
وكان أبو الأسود ( ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي ) من كبار التابعين ومن القراء لبقا ذكيا حاضر البديهة كما كان شاعرا مفلقا قال ابن الأنباري : في نزهة الألباء صفحة ( 19 ) ( وكان أبو الأسود ممن صحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان من المشهورين بصحبته ومحبته ومحبة أهل بيته ) إهـ
قال القفطي في إنباه الرواة ( 1/53-55 ) ( واستعمله علي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة وتوفي فيها سنة تسع وستين وهو ابن خمس وثمانين سنة ) ...يتبع
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة