الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سؤال الانبهار: بين وعي الذات وأوهام الغالب

سؤال الانبهار: بين وعي الذات وأوهام الغالب

سؤال الانبهار: بين وعي الذات وأوهام الغالب

على مرِّ التَّاريخ، كانَ الاحتكاكُ بينَ الأمم والحضارات قائمًا على مبدأِ المدافعة والتَّنافس؛ للحفاظِ على الكينونة، مع إتاحةِ فرصةٍ للتَّواصلِ الثَّقافي والمعرفي، والوقوفِ على تجارِبِ الآخر، حتى لا تُصاب الأمم بعزلةٍ تُبعدها عن نهرِ الحياة.
وقد قضت بذلكَ سُنَّة التَّاريخ قديمًا وحديثًا، وكلُّ هذا مما لا إشكالَ فيه. أمَّا المشكلُ الحقيقي، فهو الانبهارُ المفرطُ بحضارةٍ على حسابِ أخرى، بحكمِ الغَلَبة والتَّقدُّم، ومن ثمَّ الذَّوبانُ الذي يُفضي إلى الضُّمور والتَّلاشي.

وقد مُنِيت أمتنا في العقودِ الأخيرة بنكساتٍ مؤلمة، وأزماتٍ وحروبٍ طاحنة لمَّا تضع أوزارها بعدُ. وقد أورثت لدى الجيلِ حالةً من التَّنكرِ للذَّات، فلم تعد للهُويَّة أي حمولةٍ قيميَّة تصمدُ أمام رغبتهم الجامحة في الانعتاقِ من شللِ الحياة وضيقها وبؤسها. ولم يعد التَّفكير إلا بإحلالِ نموذجِ "الرَّجل الأشقر" في قلبِ بلداننا، للسَّير على هداه، أو حطّ الرِّحال في بلادِه لولوجِ جنَّة الدُّنيا المنتَظَرة، فرارًا من ويلاتِ الحياة في عالمٍ مُعتِم، ولو كانَ ذلكَ عبر قواربِ الموت.

ولا يعني هذا أنَّ ظاهرةَ الانبهار حديثةُ عهد، بل جذورها ضاربةٌ في عُمْقِ تاريخ أمتنا منذُ أمدٍ بعيد، لعلها تعود إلى حقبةِ الاستعمار، حين فرضَ المحتلُّ نموذجه المهيمن، وسيطرَ عسكريًّا واقتصاديًّا على العالمِ الإسلاميِّ، لتسقطَ الأمَّةُ في تأثيرٍ ثقافيٍّ واستلابٍ فكريٍّ برزَ أثرُه في مستقبلِ الشُّعوب المستعمَرة، بهدف طمسِ معالمها وإضعافِ أصالتها.
فقد كتَبَ إدوارد سعيد (2009) في كتابه "الاستشراق" أنَّ الغرب لم يكتفِ بالسَّيطرة الجغرافية، بل عمدَ إلى تشكيلِ صورةٍ مثالية لنفسه مقابل صورةٍ دونيَّة للشَّرق، مما جعل كثيرين ينظرونَ إلى الحضارة الغربية باعتبارها النُّموذج الأوحد للتَّقدمِ والازدهار.

وقد أشار الدكتور عبد الوهاب المسيري في تضاعيفِ كتبهِ إلى أنَّ هيمنةَ النَّمط الغربي في التَّعليم والإعلام أسهمت في تعزيزِ صورة الغرب باعتباره المعيارَ الحضاري، مما أدى إلى تغييبِ الهويَّة الثَّقافية للأمَّة الإسلاميَّة لصالح تقليدٍ أعمى يفتقد النَّقد والوعي.
وفي ظني أنَّ غيابَ المشروع الثَّقافي والفكري الواضح للأمَّة جعلَ الكثيرين يتبنّون النُّموذج الغربي دونَ تمحيص، كما أسهمَ الضَّعفُ الحضاريُّ الذي نحياهُ في تعزيزِ الشُّعور بالدُّونية.

ولعلَّ اللحظة الأولى للوقوعِ في آفةِ الانبهار تبدأ من خجلِ العربيِّ من التَّكلمِ بلغتهِ العربيَّة العريقة، مقابل افتخاره بنطقِ كلماتٍ بلغاتٍ أجنبيَّة، وأما مدلولُ ذلك، فهو حالةُ الإعجاب غير المشروط والتَّبعيَّة اللامتناهية التي تتملَّكُ الإنسانَ العربي تجاه الآخر الغربي: في لباسه، وطريقة كلامه، ولغته، وتفاصيل عيشه، حتى يصير الغرب المرجعَ الأوحد، والعرب - يا للأسف - مجرَّد تابعٍ بلا وجهة.

التَّدافع الثقافي المبكر
من يرجع إلى التُّراث الفكري المدون في القرنِ المنصرِم، يجد عشرات الكتب والدِّراسات التي كُتِبَت في الرَّد على النُّموذج الغربيِّ المعولم، والتَّحذير من تبعاتهِ المدمِّرَة إذا اعتبرنا أنَّ الانسلاخ من الهويَّة "إبادة ثقافية" كما وصفها لورانس ديفيدسون. بمعنى أنَّ التَّدافع الفكري المناهض لمتلازمة الانبهار كانَ حاضرًا في أدبياتِ الفكر العربيِّ الإسلامي بمختلف توجهاته، إسهامًا في تعديلِ الرؤية، لحزِّ عنق الغرام، ومحاولة للموازنة، إلا أنَّ الظَّاهرة تخبو حينًا وتتضخَّمُ في حينٍ آخر، لانتفاءِ الدَّواعي وحضورها، فلا غرو أن ترجع بعد ارتداداتِ الرَّبيع وسقوط البلدان، وفشل التَّحولات السِّياسية، ولهذا، لا تغيبُ عن النَّاظر مظاهر ذوبان الهويَّة، وحالة التَّبعية الفكريَّة، والأزمة القيمية التي تعيشها بعض المجتمعات. ولعلَّ ما حَدَثَ في غزَّة سيكون أحد كوابح الانبهار المفْرِط بالغرب.

السقوط الإنسانوي الغربي
لقد حرِصَ الغرب على الظهور بمظهرِ الحارسِ للفضيلة، والقيمِ الإنسانية، المبشِّر بحقوقِ الإنسان، فصاغ خطابًا معياريًّا، مضمونه الدَّعوة إلى إعلاءِ كرامةِ الإنسان، والحفاظ على حقوقه، وأنشأَ منظماتٍ عالميَّة للهدفِ ذاتهِ، إلا أنه سَقَطَ في أولِ اختبار أمام مصالحه الذَّاتية، لقد فشلَ في تقديم أنموذج إنساني يستوعبُ كل البشر، ونجحَ في التَّضليل المؤقَّت على السُّذج، وظهرَ جليًّا أنَّ كل هذه الشَّعارات، والمنظَّمات، مجرد أدوات أفرزها المنتصر عشية الحرب العالمية الثَّانية، لمواصلة نهب العالم، وتعزيز مكانةِ القوي، وأنَّ شعار العالمية ليسَ أكثر من عولمة مهيمنة تسعى لتطويع بقية البشر للرغباتِ الغربية وَفْقَ تصورها للحياة، وهذا لا يعني وجود أفراد تحركهم إنسانيتهم، ولكنهم حالات استثنائية وسطَ سياقٍ إمبرياليٍّ مهيمن، يعبد عجل الذَّهب، ويسفكُ دماء البشر لأجل تسمينه. وهذه المفاهيم قبل الطُّوفان لم يكن ليقتنعَ بها المتلقي بسهولةٍ كما اقتنعَ بها اليوم وهو يشاهدُ الإبادة التي تتعرَّض لها غزَّة بدعمٍ غربي منقطع النَّظير!

هل يستحق الغرب الانبهار به؟
لا يمكننا الإنكار أنَّ الحضارة الغربية تتبوأ عرش التَّقدم العلمي والتكنولوجي، ولها من المحاسنِ ما ينبغي أن نفيد منه في مجالاتٍ شتى، لكن في المقابل هي "تحفرُ للإنسانيةِ قبرها" كما وصفها رجاء جارودي. لقد غرِقَت حضارة الرَّجل الأشقر بالمادية، واللذَّة، والمنفعةِ، ورغِبَت عن الفِطرة، وتخلَّت عن الرُّوح. وإن أيَّةَ حضارةٍ تهملُ الجوانب الأخلاقيَّة والرُّوحية تفقد قيمتها في ميزانِ العقلاء، وتحكمُ على نفسها بالفناء، سواء كانَ عاجلًا أو آجلًا، واسألوا التَّاريخ؛ فهو يخبركم أنَّ انهيار الحضارات الكبرى عبر العصور كانَ نتيجةً لإهمالِ القيم الرُّوحية والأخلاقيَّة، وقد كانَ التعلُّق بمباهج الحياة وزخارفها بمثابة القشَّة التي قصمت ظهر البعير، فكيف بإحلال الشُّذوذ وتغيير الفطرة ومحاربتها ليل نهار؟!

لقد نسي هؤلاء المنبهرون بحضارةِ الغرب أنَّها أشبه بسفينةٍ ضخمةٍ أنيقة، رُتِّبَت فيها أماكن للطَّعام، وأخرى للنَّوم، وأماكن للعب، والتَّسلية، واللذَّة، وقفَ صانعها يدعو النَّاس إلى ركوبها، ويشرحُ لهم كيفَ يأكلون، وكيف يشربون، وكيف يرقدون، وكيف يلهون، حتى إذا سأله أحد الركَّاب: "إلى أين تأخذنا هذه السَّفينة؟" أجاب: "لا أدري، اركبوا فقط!". لا هدف، لا غاية، ولا مقصد واضح لهذه الرِّحلة، ولا مردود حقيقي يعود على ركَّابها سوى إرضاء الشَّهوات والغرائز والملذَّات، أمَّا ما بعد ذلك، فمجهولٌ تمامًا.

وفي هذا السِّياق يحسنُ بي أن أستشهدَ بجملةٍ متينة تُنْقَلُ عن العلامة ابن مفلح (ت: 763هـ)، وإن كان قالها لمعالجةِ شأنٍ آخر، إلا أنها تتنزَّلُ على صورٍ أخرى، ومنها النَّظَر إلى الآخر. يقولُ ابن مفلح: "وليحذر العاقل إطلاق البصر، فإنَّ العينَ ترىٰ غير المقدور عليه على غير ما هو عليه". وهذا عين ما وقَعَ فيه المنبهر، فقد نَظَرَ إلى غيرِ المقدور عليه على غير ما هو عليه بإضفاءِ الهالة والمثالية على المجتمعِ الغربيِّ وإسقاط الغرب المتخَيَّل على الغربِ الفعلي الموجود في الواقع.

نماذج ملهمة تجاوزت فخ الانبهار
في ظلِّ موجاتِ الانحدار الجارف نحو دعواتِ العبثِ والإلحاد، وسطَ السُّيولة الجارفة لكلِّ القيم، وتعاظم نفوذِ الغربِ في نفوسِ الأجيال، تبرزُ سِيَرُ وكلماتُ بعضِ أعلامِ الفكر الإسلامي كطوقِ نجاةٍ وعاصمٍ لكثيرٍ من الشَّباب من الوقوعِ في براثنِ الانبهار الأعمى، فمن أنْعَمَ النَّظر في حياتِهم، ومواقفهم، ومشاريعهم الفكرية، والإنجازاتِ الكبرى التي حققوها، يجد أنهم قد خاضوا تجرِبةَ الحياةِ في الغرب، واستقوا من علومه ومعارفه وثقافته، دون أن تفقدهم هذه التَّجرِبة انتماءَهم العميق إلى قيمهم الإسلامية وهويَّتهم الحضارية.

لقد عايش هؤلاء الأعلامُ الغربَ لا بعينِ الانبهار والتبعية، بل بنظرةِ العارف المتبصِّر، فكانَ اعتزازهم بدينهم وحضارتهم نابعًا من علمٍ وإدراك، لا من عاطفةٍ جامحة أو تعصُّبٍ فارغ، وهكذا، وقفت شخصياتهم، بحمولاتها الفكرية ومسيرتها الشَّخصية، كحائطِ صدٍّ في مواجهةِ زيفِ الوهْم الكبير والانصياعِ لصوتِ التَّغريب. لقد قدَّموا نموذجًا متوازنًا ومُلهمًا، لا يغفلُ عن نقدِ الحضارةِ الغربية علميًّا وفكريًّا، ولا يمتنعُ عن الاستفادةِ من محاسنها بما يخدمُ نهضتنا.

ولهذا، نجد في كتاباتِهم - من علي عزت بيجوفيتش إلى عبد الوهاب المسيري - تحذيرًا من الاغترارِ ببريقِ الحضارة الغربية أو محاولة الاقتداء الأعمى بالرجلِ الغربي، رغم طولِ إقامتهم بينَ ظهرانيها، لقد أعملوا عقولَهم في نقدِ الحضارة الغربية ونظروا إليها كنموذجٍ بينَ نماذج العالم، لا كمرجعيةٍ مُطلقة. كما سعوا إلى معالجةِ ظاهرةِ الاستغراب بمقارباتٍ مشابهةٍ لمنهجِ الاستشراق، واشتبكوا نقديًّا مع أطروحاتها الفكرية والفلسفية. ومع ذلك، لم يمنعهم الإنصافُ العلمي من الإشادةِ بمحاسن تلك الحضارة، ودعوةِ شعوبِنا إلى الاستفادةِ من إنجازاتها، إيمانًا بمبدأ التراكمِ المعرفي والتَّدافعِ السُّنني كشرطٍ لقيامِ الحضارات.

وقد استوقفتني كثيرًا مقولة "إقبال" الفيلسوف، شاعر الإسلام، وإنِّي أراها تنزلُ بردًا وسلامًا على قلبِ شابٍّ تقلبتْ به الحياة، ومرَّغته الأوجاع، وتنازعته نفسه إلى التَّمرد، وتنزع كل ذرة في كيانه إلى التخلُّص من الموروث الذي يرى فيه سببًا للتَّخلف والأزمات التي تمرُّ بها أمَّته، يقولُ إقبال (ت: 1938):
"لم يستطعْ بريقُ الحضارةِ الغربية أن يبهرَ لُبِّي، ويُعشِّي بصري، فقد اكتحلت بإثمدِ المدينة"، ترنَّمَ بها، وقد أمضى هناكَ عقدًا من الزَّمن أو يزيد، لكنَّه أحكمَ زمام العقل، وألزمَ نزوات العاطفة، واعتصمَ بضياءِ اليقين، ووهج الإيمان، ونظرَ إلى الحقيقة بعيدًا عن التشوه المعرفي، والحالة الانهزامية التي تسهمُ في تدميرِ مضاداتِ القيم، وتفضي إلى الانتقال نحو فضاءِ المجهول، ولو أدى الأمر إلى التَّحللِ من ربقةِ الدِّين، والتاريخ، ولعن الجغرافيا، لهثًا وراءَ بريقِ سطوةِ المدنية الغالبة!

أخيرًا:
ظاهرة الانبهار بالغرب ليست قدرًا محتومًا؛ بل هي نتاج ظروفٍ تاريخية وفكرية يمكن معالجتها بالوعيِ النَّقدي، وتعزيز الهويَّة الثَّقافية الجامعة، وإحياء المشروع الحضاري، والاعتزاز بالذَّات، لأنَّ الأمَّة لا يمكنُها النُّهوض إلا إذا استقلت بفكرها وصاغت مشروعًا حضاريًّا يستمدُّ قوته من قيمها وتراثها، فإذا انحدرنا إلىٰ اللهاثِ خلفَ نماذجَ لا ننتمي إليها، غرقنا في وحْلِ التَّقليد الرديء، والانبهار الأصم، وعشنا بلا هُويَّة، بلا ملامح، بلا معنىٰ، وبلا جذور، لأننا نحيا كما يُرادُ لنا، لا كما ينبغي أن نكون.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

أقليات وقضايا

سؤال الانبهار: بين وعي الذات وأوهام الغالب

على مرِّ التَّاريخ، كانَ الاحتكاكُ بينَ الأمم والحضارات قائمًا على مبدأِ المدافعة والتَّنافس؛ للحفاظِ على الكينونة،...المزيد