نشأة النحو العربي (البدايات) (2)

0 617

تجمع المصادر على أن العراق كان أسبق البلاد إلى تدوين (النحو والصرف) لعدة أسباب نذكر منها ما يلي :
أولا - أن العراق إقليم خصب يقع بين نهري دجلة والفرات وهو من أقدم بقاع الأرض عمرانا وهو قطر غني بخيراته ومياهه وقيل عنه أنه أعدل أرض الله هواء وماء وكان ملجأ للعجم قبل الفتح فكان يسكنه كثير من الأمم كـ (الآشوريين) و (الفرس) – والآشوريون هم مجموعة عرقية تسكن في شمال ما بين النهرين في العراق وسوريا وهي من أقدم الشعوب التي اعتنقت المسيحية - وبعد الفتح أقبل المسلمون على العراق عربا وعجما إذ أنها تمتاز بأسباب الحياة الناعمة ورغد العيش.
ثانيا – أدى هذا المزج بين العرب والعجم إلى كثرة اللحن وانتشاره في العراق أكثر من غيره من الأمصار.
ثالثا – تقع البصرة على مقربة من وادي نجد غربا والبحرين جنوبا والأعراب يفدون إليها منهما فأخذ البصريون عن العرب الأقحاح الذين لم تفسد سليقتهم العربية أما الكوفة فلبعدها عن البادية لم يفد إليها من العرب الأقحاح إلا القليل .

وتعد البصرة أسبق مدن العراق اشتغالا بعلوم النحو، حيث احتضنت النحو زهاء قرن من الزمان ، قبل أن تشتغل به الكوفة .
فالبصرة هي التي شادت صرح النحو ورفعت أركانه ، بينما كانت الكوفة مشغولة بقراءات الذكر الحكيم ورواية الشعر والأخبار ذكر ذلك جمع من العلماء .
من ذلك قول ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء صفحة ( 29 ) (وكان لأهل البصرة في العربية قدمة بالنحو وبلغات العرب والغريب عناية) إهـ
ويقول ابن النديم في الفهرست صفحة ( 96 ) قال محمد بن إسحق (إنما قدمنا البصريين أولا لأن علم العربية عنهم أخذ ولأن البصرة أقدم بناء من الكوفة) إهـ
ثم اشترك علماء البصرة والكوفة في النهوض بالنحو من عهد الخليل بن أحمد شيخ الطبقة الثانية من البصريين، وأبي جعفر الرؤاسي شيخ الطبقة الأولى من الكوفيين حتى نمت أصوله، وكملت عناصره في مستهل العصر العباسي الأول على يد المبرد خاتم البصريين وثعلب خاتم الكوفيين.
وهكذا أصبحت العربية من الدين، وغدا تعلمها لفهم مقاصد الكتاب والسنة قربة من أجل القربات إلى الله عزوجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم صفحة ( 469 ) (فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ثم منها ما هو واجب على الأعيان ومنها ما هو واجب على الكفاية) إهـ

مدرستا البصرة والكوفة ومنهج كل منهما وأسباب الخلاف:
أدت العوامل والظروق السابقة إلى اختلاف منهج كل من الفريقين الكوفي والبصري فنشأ الخلاف بينهما في أمور عدة .
1- البصريون  أقاموا نحوهم على القرآن الكريم والشعر الجاهلي والإسلامي الموثوق بصحته وسلامة لغة قائله ولهذا اختاروا من بين القبائل التي اعتمدوا على لغتها قيسا وتميما وأسدا وأخذوا من هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين لأن لغة هؤلاء لم يصبها داء اللحن ولم تفسد بالاختلاط بالأعاجم والبصريون يتحرون عن الرواة فلا يأخذون إلا برواية الثقات الذين سمعوا اللغة من الفصحاء عن طريق الحفظة
والكوفيون لم يتحروا صحة ما نقل إليهم فقد قبلوا كل مسموع ولم يبالغوا في التحري والتنقيب ورأوا احترام جميع ما ورد عن العرب وأجازوا استعماله ولو لم يجر على تلك القواعد التي وضعها البصريون وتساهلوا في التثبت من صحة المسموع وأمانة راويه وسلامة قائله.

2- البصريون لم يأخذوا عن حضري ولا ممن كان يجاور الأمم الأخرى كلخم وجذام لمجاورتهم أهل مصر ولا من نمر لمجاورتهم اليونان ولا من بكر لمجاورتهم النبط والفرس ولا من عبد قيس ولا أزد عمان لمجاورتهم الفرس ولامن أهل اليمن لمخالطتهم الهند والحبشة .
والكوفيون أخذوا عن أهل الحضر ممن جاور المتحضرين من الأعراب يقول القفطي في أنباه الرواة ( 2/274) (قال أبو زيد الأنصاري: قدم الكسائي البصرة فأخذ عن أبي عمرو بن العلاء وعن يونس بن حبيب وعيسى بن عمر ثم خرج إلى بغداد وقد قدم أعراب الحطمة – بطن من قيس – وأخذ عنهم شيئا فاسدا فخلط هذا بذاك فأفسده) إهـ

3- البصريونلا يستشهدون ببيت شعر لم يعرف قائله، فهم متشددون في قبول ما يروى من الشعر ولا يعترفون إلا ببعض القبائل الموثوق بشعرها .
والكوفيون يحتجون بالشاهد المجهول قائله يقول أبو الطيب اللغوي في كتابه مراتب النحويين صفحة ( 74 ) (والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله وذلك بين في دواوينهم) إهـ

4- البصريون يشترطون فيما ينقل عن العرب الكثرة الكاثرة فيقعدون على الأكثر وإلا فعلى الكثير وإلا فعلى القليل وإلا فعلى الأقل وإلا فعلى النادر وإلا قاسوا الأشباه والنظائر على النظائر اذا لم يتناقض مع الوارد ولا يستجيبون لكل مسموع .
والكوفيون لم يشترطوا للقياس كثرة كاثرة بل قاسوا على الشاهد الواحد ولو جاء مخالفا للكثرة الكاثرة المتفق على القياس عليها فما اعتبره البصريون شاذا أو ضرورة قبله الكوفيون وجعلوه مقيسا عليه.

5- البصريون  لا يقيسون على الشاذ قال السيوطي في الإقتراح في أصول النحو صفحة ( 156 ) (اتفقوا على أن البصريين أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ والكوفيون أوسع رواية) إهـ
والكوفيون يستنبطون بعض القواعد بالقياس النظري من غير حاجة إلى شاهد وربما جعلوا من الشواذ أساسا نقل السيوطي في الإقتراح في أصول النحو صفحة ( 157 ) عن الأندلسي في شرح المفصل قوله: (الكوفيون لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه بخلاف البصريين) إهـ
وقال السيوطي في بغية الوعاة ( 2/164 ) ( قال ابن درستويه: (كان الكسائي يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه فأفسد بذلك النحو) إهـ

وعلى كل ما زال النحو منذ نشأته الأولى إلى عصرنا هذا مادة حية في المعاهد والجامعات والمدارس وسيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ، قال الله تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} وقال تعالى {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } وقد تكفل الله عز وجل بحفظ كتابه العزيز قال تعالى : {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة