- اسم الكاتب:د. راغب السرجاني
- التصنيف:ثقافة و فكر
لعل من حكم نزول الرسالة في هذا المكان(جزيرة العرب)، وهي حكمة مهمة جدا ولها تفريعات كثيرة، فرغم ما وجد في البيئة العربية من أدواء كالظلم، والقهر، والعصبية، فقد وجد أيضا صفات أصيلة في فطرة ساكني هذه المنطقة تساعد على حمل الدعوة ونشر الرسالة، جبلوا عليها وأحبوها.
وهذه الصفات لا بد من توافرها في كل داعية، ولو لم توجد فمن المستحيل أن يستطيع ذلك الداعية حمل رسالة الإسلام، ومن هذه الصفات:
1- الصدق:
وهي أهم صفة مميزة للداعية، وهو أيضا أهم صفة مميزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الصادق الأمين، ومن أكثر من ساعده في دعوته؟ إنه أبو بكر الصديق، فصفة الصدق أساسية في الذي يحمل هذا الدين.
فكر معي: ماذا لو أنزلت الرسالة على قوم كذابين؟
أرأيت ماذا فعل اليهود والنصارى في دينهم؟ إن الله عز وجل يقول عنهم: {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}.
إن العرب كانوا يأنفون من الكذب، ويستنكر أحدهم أن يكون كاذبا، فيأتي الإسلام بعد ذلك يجمل ويحسن ويعظم قيمة الصدق عند الصادقين، ويربط الصدق بالجنة، وبرضا الله سبحانه، لكن في النهاية كان الصدق مغروسا بداخلهم، ولم يكن من الممكن للعربي أن يكذب.
موقف أبي سفيان مع هرقل
انظر إلى هذا الموقف الذي دار بين أبي سفيان، وهو مشرك بعد صلح الحديبية، وهرقل ملك الروم، كما ورد في صحيح البخاري ؛ فعن عبد الله بن عباس :"أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشأم في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا.
فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره؛ ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه.
فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه (وفي لفظ ابن إسحاق: فوالله لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرأ سيدا أتكرم على الكذب) ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟
قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا؛ قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون (إنه يعظم شأن الإسلام بكلامه هذا). قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا؛ قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا؛ قال: فهل يغدر؟
قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة (أي لم يستطع تشويه صورة الرسول الكريم إلا بالإيحاء أنه ربما يغدر رغم إقراره أن النبي لم يغدر قبل ذلك ).
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا (كغزوة بدر) وننال منه (كغزوة أحد). قال: ماذا يأمركم؟ قلت (وانتبه هنا لكلام أبي سفيان): يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة.
إنه داعية للإسلام بكلامه هذا؛ لأنه لا يستطيع أن يكذب، لخص لهرقل كل ما قاله النبي في حياته؛ لأنه يكره الكذب.
إن الرسالة عندما تنزل على قوم كهولاء يكرمون الصدق، فإنهم سيبلغونها للناس كما هي. إذن فصفة الصدق مهمة جدا، وكانت موجودة في أهل الجزيرة العربية، ولم تكن موجودة في أهل الأرض في ذلك الزمن.
2- الكرم:
وهي الصفة الثانية العظيمة جدا، والتي كانت موجودة في العرب، وهي صفة أصيلة فيهم، فقد كان حاتم الطائي ممن يضرب بهم المثل في الكرم، وقد كان من كرمه أنه يعتق العبد إذا جاءه بضيف، ومن العرب من لم تكن له إلا ناقة واحدة، فيأتيه ضيف فيذبحها له.
وقد سمت العرب العنب كرما، فلماذا؟ لأن العنب تستخرج منه الخمر، والخمر تذهب عقل شاربها، فيبدأ في الإنفاق بلا حساب، لذا سموا العنب كرما لحبهم للإنفاق.
بالطبع جاء الإسلام ليهذب هذه الصفة الجميلة، فلا يصل الأمر إلى حد الإسراف والسفه، كما لا يصل إلى حد حب الخمر لأنها تشجع على الكرم، بل حرم الله عز وجل الخمر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب بالكرم، وقال: (إنما الكرم المؤمن)؛ ليشجع المسلمين على الكرم، ولكن ليس لدرجة أن تشرب الخمر، أو أن تسرف وتتصف بالسفه.
وفيم نحتاج الكرم في إنشاء الأمة الإسلامية؟
إن صفة الكرم مهمة جدا لجيل التغيير؛ لأن الله عز وجل عندما يتحدث عن صفات الناس الذين سيتحملون مسئولية الدين يجعل نصف الجهاد في سبيله جهادا بالمال، نصف الجهاد يحتاج الكرم {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون}،{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.
وكثير من آيات القرآن جاءت على هذا المنوال، حيث يقدم الله الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس.
نماذج الكرم بين الصحابة
انظروا إلى أثر هذه الصفة في الدعوة:
- أبو بكر الصديق الكريم رضي الله عنه أنفق الكثير من ماله بل ماله كله في إعتاق العبيد، وتجهيز الجيوش، والإنفاق على الهجرة من ماله.
- عثمان بن عفان رضي الله عنه جهز جيش العسرة على نفقته، واشترى بئر رومة، وتوسعة المسجد النبوي، وإطعام المدينة في زمن القحط، كل ذلك شارك فيه بنفقته.
- عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بقافلة تجارية كاملة مكونة من سبعمائة ناقة في سبيل الله عز وجل.
- طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنفق سبعمائة ألف درهم في ليلة واحدة على الفقراء.
هذه النماذج لا يمكن أن توجد لو كان في الناس بخل فطري، فالرجل الذي يتصف بالبخل من الصعب أن يصل إلى هذه الدرجات، وبناء الأمم يحتاج إلى كرماء، وإلى بذل وإنفاق.
هذا الدرس تعلمناه من نزول الرسالة في أرض مكة والجزيرة العربية.
3- الشجاعة:
كان العرب قبل نزول الرسالة عليهم يفتخرون بالموت قتلا، ويستهينون بالحياة تماما، ليس عند العربي مانع أن يفقد حياته وفاء لكلمته، أو دفاعا عن صديقه، أو حماية لجواره.
قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفا (ميتة طبيعية في فراشه) ولكن قطعا بأطراف الرماح، وموتا تحت ظلال السيوف.
وإذا كنا قد ذكرنا أن نصف الجهاد بالمال، فالنصف الآخر بالروح، وهذا أشق، إن بناء الأمم كما يحتاج إلى أموال وكرم، فهو يحتاج إلى أرواح وهمم.
إن الجبان قد يقتنع بقضية ما، لكن قلبه لا يقوى على الإقدام عليها، أما العرب فكانت شجاعتهم فطرية، وقد ساعد هذا الأمة الإسلامية أن تنشأ وتنمو بسرعة في هذه البيئة.
ولقد رأينا أثر هذه الشجاعة في بناء الأمة المسلمة.
نماذج الشجاعة بين الصحابة
فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان يبدأ المعارك بنفسه ويقول: إذا رأيتموني حملت على العدو فاحملوا. فأول إشارة للقتال ضد العدو أنه تحرك، رغم أنه هو القائد، ويستطيع أن يقف في الأعقاب، ولكنه لم يكن خائفا من الموت ولا يهتم به.
البراء بن مالك رضي الله عنه ألقاه جيش المسلمين في معركة اليمامة داخل حديقة الموت -وبها أربعون ألفا من المرتدين- حتى يفتح لهم الباب من الداخل، ولم يهتم لأن قضية بقائه على قيد الحياة لا تهمه.
جاء الإسلام ليهذب هذه الصفة -الشجاعة- ويجعلها خالصة لله، أي مت شجاعا لتدخل الجنة، أما الجبان فمن الصعب جدا أن تزرع فيه هذه المعاني.
انظر ماذا فعل الجبن في بني إسرائيل {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} .
وعلى الجانب الآخر انظر إلى قول المقداد يوم بدر: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ، ولكن امض ونحن معك. فكأنه سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري. وفي رواية أحمد: "ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون".
إذن كانت الشجاعة صفة في غاية الأهمية لبناء الأمة الإسلامية.
4- العزة:
وهي صفة أخرى من الصفات المهمة كانت موجودة في العرب، فالعربي بفطرته يأبى أن يعيش ذليلا، يأنف من الذل، يرفض الضيم، يعشق الحرية.
استمع إلى قول عنترة وقد عاش ومات مشركا قبل نزول الإسلام:
لا تسقني ماء الحياة بذلة *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنـم *** وجهنم بالعز أطيـب منـزل
وبالطبع لم يكن عنترة يؤمن بجهنم، فقد كان مشركا ولكن جهنم بالنسبة إليه هي النار الشديدة.
موقف عمرو بن كلثوم
جلس عمرو بن هند ملك الحيرة مع أصحابه، فقال لهم: هل تعلمون أن أحدا من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، عمرو بن كلثوم الشاعر التغلبي.
فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه واتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت، قالت لها ذلك، فقالت أم عمرو بن كلثوم: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فأعادت عليها الكرة، وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: واذلاه، يا لتغلب.
فمن الذي سمع؟ إنه عمرو بن كلثوم، فاشتد به الغضب، ورأى سيف الملك، معلقا في الحجرة، فتناوله، وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى بني تغلب، فجاءوا وانتهبوا قصر الملك بالحيرة.
ودفع الملك حياته جزاء محاولته إذلال عمرو بن كلثوم، وهذا في الجاهلية.
لا شك أن الأمة التي تنشأ تحتاج إلى هذه الروح وهذه العزة مع توجيهها لله عز وجل {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا}.
لذلك كان قبول المسلمين في مكة بفكرة عدم القتال، وعدم رفع الظلم الواقع عليهم أشق على نفوسهم من قبول فكرة الجهاد في سبيل الله، وبذل الروح في العهد المدني، لأنهم تعودوا على العزة ورفع الرأس، وعدم قبول الظلم، وهذه الصفات لا تنفك عن أولئك الذين يحملون أمانة هذه الأمة.
5- الصبر وقوة التحمل:
اكتسب العرب هذه الصفة من طبيعة بلادهم الجافة، وظروف المعيشة القاسية، وبعدهم بصفة عامة عن الترف، فكانت هذه الصفة من الصفات العظيمة التي كفلت للدعوة النجاح، فلا بد من صبر لتحمل مشاق الرسالة الضخمة.
- صبر على الفقر، ولمدد طويلة.
- صبر على الجوع، فقد يحتاج إلى جهاد طويل، ولا يقيم صلبه سوى تمرات قليلة.
- صبر على المشقة والحر والتعب والسفر الطويل، والحصار الأطول.
-صبر على القتال والنزال والجهاد.
- صبر حتى على تأخر النصر، فلا يستعجل ولا يمل ولا يضجر.
ومن كانت هذه صفته، وكان بعيدا عن الترف، كان دعامة راسخة للأمة الإسلامية.