مِنْ أسماء الله الحُسْنَى " الحكيم"

0 195

أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية مصدرها القرآن الكريم والسنة النبوية، لا مجال للعقل والاجتهاد فيها، يجب الوقوف فيها على ما جاء به القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة. وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه - من أسماء وصفات - في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما ينفون ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الله عز وجل أعلم بنفسه من غيره، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بربه. قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}(الأعراف:180). قال الشوكاني في "فتح القدير": "هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التفصيل، والحسنى تأنيث الأحسن أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة) رواه البخاري. قال النووي: "واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر: (أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)".
قال أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني: "ويعتقدون ـ يعني: أهل السنة والجماعة - أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، وموصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم". وقال الشيخ ابن عثيمين: "أسماء الله تعالى توقيفية، لا مجال للعقل فيها، وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص، لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}(الإسراء:36).. ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه، جناية في حقه تعالى، فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص".
والله عز وجل ليس كمثله شيء، فإنه سبحانه الكامل في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، الذي دلت النصوص والعقول على أنه لا نظير له سبحانه وتعالى، فلا مثيل له في ربوبيته، ولا مثيل له في إلهيته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى:11). قال السعدي: "{ليس كمثله شيء} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة".

و"الحكيم" اسم من أسماء الله تعالى الحسنى، ومن معاني اسم الله "الحكيم": الذي يضع الأمور في مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر، ولا يعذب إلا من استحق، ولا يقدر إلا ما فيه حكمة، فأفعاله سديدة، وصنعه متقن، فلا يقدر شيئا عبثا، ولا يفعل لغير حكمة، بل كل ذلك بحكمة وعلم، وإن غابت حكمته عن الخلق..
قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث": "وقيل: الحكيم: ذو الحكمة. والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم". وقال الخطابي في "شأن الدعاء": "(الحكيم): هو المحكم لخلق الأشياء.. ومعنى الإحكام لخلق الأشياء إنما ينصرف إلى: إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها". وقال الطبري: "(الحكيم) الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل". وقال: "حكيم فيما قضى بين عباده من قضاياه". وقال ابن كثير: "الحكيم" في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله". وقال الحليمي في "المنهاج": "(الحكيم) ومعناه الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من وحي عالم قدير".
وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين": "الحكيم من أسمائه الحسنى، والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة.. وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة".

وقد ورد اسم الله عز وجل "الحكيم" في الكثير من الآيات القرآنية، وورد كذلك في الأحاديث النبوية، ومن ذلك:
1 - قال الله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}(الأنعام:18). قال ابن كثير: "{وهو الحكيم} أي: في جميع ما يفعله {الخبير} بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا لمن يستحق ولا يمنع إلا من يستحق". وقال السعدي: "{وهو الحكيم} فيما أمر به ونهى، وأثاب وعاقب، وفيما خلق وقدر. {الخبير} المطلع على السرائر والضمائر وخفايا الأمور، وهذا كله من أدلة التوحيد".
2 ـ قال الله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}(المائد:118). قال الطبري: "قيل: معناه إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز في الملك، الحكيم في القضاء، لا ينقص من عزك شيء، ولا يخرج من حكمك شيء، ويدخل في حكمته ومغفرته وسعة رحمته ومغفرته الكفار، لكنه أخبر أنه لا يغفر وهو لا يخلف خبره". وقال السعدي: "أي: فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة، لا كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة. {الحكيم} حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة".
3 ـ قال عز وجل: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم}(البقرة:228). قال ابن كثير: "أي: عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره". وقال الطبري: "{والله عزيز} في انتقامه ممن خالف أمره، وتعدى حدوده.. {حكيم} فيما دبر في خلقه، وفيما حكم وقضى بينهم من أحكامه".
4 ـ وقال سبحانه: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم}(النساء:26). قال الطبري: "{والله عليم} يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده في أديانهم ودنياهم وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذرون مما أحل أو حرم عليهم، حافظ ذلك كله عليهم. {حكيم} بتدبيره فيهم، في تصريفهم فيما صرفهم فيه".
5 ـ وقال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم}(النور:10). قال البغوي: "يعني لعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان، وإن الله تواب يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة، حكيم فيما فرض من الحدود". وقال ابن عاشور: "وفي ذكر وصف "الحكيم" هنا مع وصف تواب إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة وهي استصلاح الناس".
ومن الأحاديث النبوية التي جاء فيها اسم الله "الحكيم":
1 ـ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني كلاما أقوله، قال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم) رواه مسلم.
2 ـ وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (.. فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}(المائد:118:117) رواه البخاري.

قال ابن القيم في قصيدته "النونية":
وهو الحكيم وذاك من أوصافه     نوعان أيضا ما هما عدمان
حكم وإحكام فكل منهما             نوعان أيضا ثابتا البرهان
قـال الشيخ الهراس في "شرح النونية": "ومن أسمائـه الحسنى سبحانه: (الحكيم)، وهو إما فعيل بمعنى فاعل، أي: ذو الحكم، وهو القضاء على الشيء بأنه كذا أو ليس كذا، أو فعيل بمعنى مفعل، وهو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وقيل: الحكيم ذو الحكمة، وهي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم".

"الحكيم" من أسماء الله تعالى الحسنى، والله سبحانه وتعالى لا يتصرف في هذا الكون ولا يأمر ولا ينهى إلا لحكم عظيمة، قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}(المؤمنون:116:115). قال ابن كثير: "وقوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا}: أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا.. وقوله: {فتعالى الله الملك الحق} أي: تقدس أن يخلق شيئا عبثا، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك". وقال السعدي: "(الحكيم): هو الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}(المائدة:50). فلا يخلق شيئا عبثا، ولا يشرع شيئا سدى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة.. والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها". وقال ابن القيم في "مدارج السالكين": "وله سبحانه الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه، من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة بالغة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكل الألسن عن التعبير عنها".. والمسلم يعلم ويؤمن أن الله تعالى حكيم في خلقه وأمره وشرعه، وأنه سبحانه ما خلق وقدر وشرع شيئا إلا لحكم بالغة، ومصالح راجحة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، ومن ثم يعيش حياته مطمئن القلب، قرير العين، مؤمنا وراضيا بقضاء وقدر الله الحكيم الخبير، الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. قال ابن تيمية: "وعلى هذا فكل ما فعله ـ سبحانه ـ علمنا أن له فيه حكمة، وهذا يكفينا من حيث الجملة، وإن لم نعرف التفصيل.. وكذلك نحن نعلم أنه حكيم فيما يفعله ويأمر به، وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة