وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون

0 586

في القرآن الكريم الكثير من آيات الترغيب التي تفتح أمام الناس أبواب الرجاء والأمل والطمع بالفوز برحمة الله وعفوه ورضوانه.. وكذلك فيه من آيات الترهيب التي تتضمن من المعاني الجليلة العظيمة التي تحدث في قلوب المؤمنين من تقوى الله والخوف من عقابه ما يكون له أكبر الأثر في تحرزهم من المعاصي وتوقيهم للنقص والزلل، وخوفهم من الله ما يقود إلى ارتقائهم مدارج السالكين، وفوزهم بأعلى درجات النعيم.

وقد تحدث أهل العلم وعلماء التفسير وعلوم القرآن عن أخوف الآيات وأرجاها، فذكروا من آيات الرجاء قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النساء:48)، وقوله تعالى: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}(النور:22)، وقيل هي قول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}(الضحى:5)، وقيل غير ذلك.

وأما آيات الخوف فقال بعضهم أخوف آية في كتاب الله تعالى قوله سبحانه: {من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا}(النساء:123)، وقوله جل في علاه: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين}(آل عمران:131)، وقيل أشدها قوله: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا}(مريم:71).. وكذا من آيات الخوف: {ويحذركم الله نفسه}(آل عمران/28)، وقيل: {سنفرغ لكم أيها الثقلان}(الرحمن/31) ، وقيل: {فأين تذهبون}(التكوير/26)، وقيل: {إن بطش ربك لشديد}(البروج/12).

وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون
ومن الآيات التي ذكروها أيضا في هذا الباب قوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}(الزمر:47).. وهي آية عظيمة تستحق أن نقف معها وقفات.

جاء في سير أعلام النبلاء وغيره في ترجمة الإمام الكبير، الزاهد العابد، الحجة الثقة محمد بن المنكدر: "أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى، فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله، وسألوه، فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه، فما زال يسكته حتى سكت، فقال له: ما الذي أبكاك؟ قال: مرت بي آية، قال: وما هي؟ قال: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}، فبكى أبو حازم، وعاد محمد للبكاء حتى اشتد بكاؤهما.. فقال أهل ابن المنكدر.. جئنا بك لتسكته فزدته بكاء".

وروى عفيف بن سالم، عن عكرمة بن إبراهيم، عن ابن المنكدر، أنه جزع عند الموت، فقيل له: لم تجزع؟ قال: أخشى آية من كتاب الله {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب.

إن هذه الآية آية تستحق والله من المسلم أن يقف عندها طويلا ويبكي لذكرها كثيرا.. فإن المواقف التي يمكن أن يبدو للعبد فيها ما لم يكن يحتسب كثيرة أيضا: عند الموت، وفي القبر، وفي العرصات، وموقف القيام بين يدي الله، وعند الميزان وعلى الصراط وغيرها من المواقف العصيبة.

إن الله لم يدع للإنسان شيئا عمله إلا وسطره عليه وكتبه، وأحصاه وأثبته {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ۖ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}(ق:16ـ18)، {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ۚ بلى ورسلنا لديهم يكتبون}(الزخرف:80)، {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ۚ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}(الجاثية:29).

{وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}.. عند الموت.. وهول المطلع وما أصعبه: فعند هذا الموقف وفي هذا الحال ينتظر الإنسان ليسمع إحدى البشارتين: إما قول الملك: أبشر ولي الله بروح وريحان، ورب راض غير غضبان.. وإما قوله: أبشر عدو الله بالذل والهوان والعذاب والنيران.. وعندها يبدو لهم ما لم يكونوا يحتسبون.

{وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}.. في القبر.. هناك حين يسأله الملكان من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ هل يثبته الله فيقول ربي الله، ديني الإسلام، ونبيي محمد عليه الصلاة والسلام؟ فينادي مناد أن صدق عبدي، فاكتبوا كتابه في عليين، وافسحوا له في قبره مد البصر، وافرشوا له من الجنة، ويقال نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، وينادي رب أقم الساعة رب أقم الساعة ..
أم ستخذله أعماله ويبدو له ما لم يكن يحتسب، وتكون الإجابة "هاه هاه لا أدري".. فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمرزبة، وينادى أن كذب، فاجعلوا كتابه في سجين، وافتحوا له بابا إلى النار، وافرشوه من النار، ويضم عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.. وينادي رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة.

وأما في يوم القيامة.. يوم الهول الشديد والموقف العصيب والخوف الرهيب.. فعندها تكون المفاجآت التي تعصف بعقل الرشيد وقلب اللبيب.
عند تطاير الصحف سيبدو لأناس ما لم يكونوا يحتسبون.. عندما يعرف الإنسان حقيقة ونتيجة عمله.. هل ستمتد يمينه لتأخذ الكتاب، أم أن كتابه كتاب سوء فيأخذه بشماله من وراء ظهره.
إن هذا كتابك الذي سطرته بأعمالك، فهل فكرت يوما ماذا وضعت فيه، وماذا سطرت فيه، منذ صرت مكلفا إلى اليوم {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ۖ ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}(الإسراء:13ـ14).. {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ۚ ووجدوا ما عملوا حاضرا ۗ ولا يظلم ربك أحدا}(الكهف:49).

وكذلك عندما ينادى عليك للمقام بين يدي الله.. وهوالموقف الذي قال الله فيه: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}(الرحمن:46)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)(متفق عليه).

فهل يا ترى سيلقي الله عليك كنفه، ويرخي عليك ستره، ويحاسبك حسابا يسيرا، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فتقول: نعم أي رب، فيقول: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطيك كتاب حسناتك بيمينك.
أم أنه سيناقشك ويقررك ويقيم عليك حجته ثم يؤمر بك إلى النار؟

أما عند الميزان: فالهول شديد، يقول سبحانه {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ۖ وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ۗ وكفى بنا حاسبين}(الأنبياء:47).
كل عمل عملته سيوزن وعندها ستبدو الخبيئات، وتنفضح المستورات، وتبلى السرائر، وتظهر مكنونات الضمائر، وسيبدو لأناس ما لم يكونو يحتسبون.

يؤتى بالميزان، ويؤتى بالعبد ويؤتى بأعماله لتوزن، أعمال صالحة قيام ليل، زكاة، صدقة، قراءة قرءان، بر، صلة، حسن جوار... ما شاء الله.. وفجأه يجعلها الله هباء منثورا.. لماذا؟ ما الذي حدث؟ لأنها كانت رياء وسمعة فذهب ثوابها..ففي حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا. قال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)(صحيح ابن ماجة).

أموريسيرة صغيرة في نظر الكثير: نظرات، بسمات، همزات، كلمات، همسات، خطرات، لكنها بدأت تكثر وتزيد، ما هذا؟ إنها أمور كنت تستهين بها فإذا بها تكثر ثم تثقل.. فعن ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)(صحيح الجامع).

على الجانب الآخر:
وإذا كانت هذه الآية تثير الخوف في قلب السامع والقارئ، وهي كذلك كما هو سياقها.. غير أن بعض الناس أحيانا قد يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.. ولكن هذه المرة في جوانب من الخير.

إن العبد قد يظن أنه سيتعرض للعقاب ويستحق العذاب فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسب، وتهب عليه نفحات ربانية فيبدو له كذلك من الخير مالم يكن في الحسبان.

ـ كصاحب البطاقة الذي ذكر النبي قصته في الحديث الصحيح: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق ، فينشر له تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول الله عز وجل : هل تنكر من هذا شيئا ؟ فيقول : لا ، يا رب ، فيقول : أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ ثم يقول : ألك عن ذلك حسنة ؟ فيهاب الرجل ، فيقول : لا ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنات ، وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، قال : فيقول : يا رب ما هذه البطاقة ، مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة).

. وكحديث الرجل الذي أسرف على نفسه (فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في الريح في البحر فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا قال ففعلوا به ذلك فقال للأرض أدي ما أخذت فإذا هو قائم فقال له ما حملك على ما صنعت قال خشيتك أو مخافتك يا رب فغفر له لذلك)(صحيح بن ماجه).

. والرجل الذي كان يداين الناس، وأصله في البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: (إن رجلا لم يعمل خيرا قط، وكان يداين الناس، فيقول لرسوله: خذ ما تيسر، واترك ما عسر وتجاوز، لعل الله يتجاوز عنا.. فلما هلك قال الله له: هل عملت خيرا قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام، وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر، و اترك ما عسر، وتجاوز، لعل الله يتجاوز عنا. قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك).

إن العبد ليتصدق بالصدقة القليلة حتى بالتمرة لا يظن أن ثوابها يبلغ الشيء الكثير، فإذا كان يوم القيامة وجد ثوابها كجبل أحد، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.. جاء في صحيح مسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل).

وعلى مثل هذا المنوال تصير أعمال وأعمال.. صدقة في جوف ليل، دمعة في غفلة وخلوة، آية علمتها لله، مسجد لله بنيته، بئر لله حفرته، كلمة حق لله قلتها، دعوة مستجابة رفعتها.. رعاية أرملة، كفالة يتيم، مصحف أهديته، علم علمته، أو سرور على قلب مسلم أدخلته، شجرة من طريق الناس رفعتها، حيوان أحسنت إليه ورحمته... أعمال كثيرة عملوها فإذا كان يوم القيامة بدا لهم من الله من الأجر والثواب  والرحمة مالم يكونوا يحتسبون.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة