- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:ثقافة و فكر
الكتاب أهم جهاز من أجهزة الثقافة وأعمقها أثرا، وهناك نظريات تنبئ بأن الكتاب لن يسترد مكانته فحسب، بل سيعود إلى الصدارة بين أجهزة الثقافة المختلفة؛ وذلك لعدة أسباب:
إن شعوب العالم كلها قد تنبهت إلى خطر الأمية، واتخذت من محاربتها أساسا لكل نهوض مادي وصحي واجتماعي؛ فالمال ككل شيء آخر يمكن أن يساء استخدامه، أو أن تضيع فائدته إذا وضع بين أيدي الجهلاء، بحيث يمكن القول: إننا لسنا على ثقة من أن العامل الجاهل سوف يستفيد الفائدة الحقة من رفع أجره. ونحن نلاحظ لسوء الحظ في الأوساط الجاهلة كيف أن العامل لا يكاد يرتفع أجره حتى يفكر في تبديد المال في أوجه ضررها أقرب من نفعها.
والذي لا شك فيه أن الجهل من أهم أسباب هذه الكوارث التي يجهل الأميون مدى خطورتها، كما أن الجهل خليق بأن يعوق جميع مشروعات الصحة الوقائية والعلاجية عن أن تؤتي ثمارها؛ وذلك لأن كل هذه المشروعات لا بد من معاونة الشعب في تنفيذها، وهو لن يعاون إلا إذا أدرك أهميتها وجدواها على حياته وآمن بها، وهذا الإدراك لا يستطيعه جاهل.
إن الخط الفاصل بين العمل العقلي والعمل الجسمي قد أخذ في الزوال؛ فالعلم الآن يغزو كافة الميادين حتى ليتوقع العالم أن تنمحي في المستقبل القريب كل ضرورة للمجهود العضلي الذي ستحل محله الآلات، التي لا تحتاج في إدارتها إلا إلى مجهود ذهني وعصبي، وهذا المجهود يحتاج إلى معرفة سابقة وتدريب وثقافة علمية كافية، وكل هذا لن يقدمه إلا الكتاب، حتى رأينا منظمة اليونسكو ترصد جائزة كبيرة هي جائزة "كالينجا" التي تمنح سنويا لأحسن كاتب يؤدي خدمة ممتازة في نشر الثقافة العلمية بين الجماهير.
وكان العلماء من قبل ينظرون باستخفاف واستنكار إلى الكتاب الذين يبذلون نشاطهم في الكتب والصحف لنشر العلوم، وجعلها في مستوى القارئ العادي بحيث تعم فائدتها الطبقات الشعبية، ولكن هذه النظرية تغيرت الآن، وأصبح من الواجب العناية بنشر الثقافة العلمية حتى نمحو الأمية العلمية بين الجماهير.
إن الثقافة العلمية التي ندعو إليها هي إدخال العلوم كفرع في نشر الثقافة، والاهتمام بالعلوم بقدر الاهتمام بالأدب والشعر.
الثقافة العلمية هي تنوير الجماهير لكي تدرك كل ما يجب أن تدركه من حقائق، وتعرف ما يجب أن تعرفه من خفايا العلوم، حتى تكون لها قوتها وأثرها في توجيه العلماء والساسة إلى استخدامها في سعادة البشرية دون استخدامها في التدمير والفناء.
إن التطور العالمي يوحي بأن الشعوب سوف تتغلب ـ إن عاجلا وإن آجلا ـ على كافة العقبات التي تعوق انتشار الكتب (الورقي أو الإلكتروني) والإقبال على قراءتها؛ فجميع شعوب العالم من كل الاتجاهات تتطور نحو تخفيض ساعات العمل اليومي والإقلال من المجهود العضلي أو العصبي أو الذهني الذي يبذله العمال على نحو منهك لقواهم مستغرق لطاقتهم. وليس من شك في أن العامل والفلاح الذي سيجد في نفسه فضلا من الطاقة ومتسعا من الفراغ سوف يقدم على قراءة الكتب والاستفادة منها، وبخاصة عندما يكمل وعيه وإحساسه بأن الثقافة التي سيحصلها من الكتب قد أصبحت ضرورة حياة، ووسيلة عيش، ودفاعا عن حقوقه، ولم تعد ترفا يمكن الاستغناء عنه.
خطط التنظيم:
على أن هذا التطور الذي نتوقعه لا يمكن أن يتحقق كله آليا، وإنما ذكرنا مبرراته لندل على أن المجهود الذي يمكن أن يبذل في هذا السبيل لن يضيع سدى ما دامت له مذكياته النابعة من حقائق واقعنا الإنساني الراهن.
ولكن ما هي المجهودات التي يجب أن تبذل؟ وكيف نستطيع تنظيمها؟ وأحب هنا أن أقصر الحديث على عالمنا العربي؛ لأن مشكلاته لا تتضمن المشكلات الإنسانية العامة فحسب، بل تضاف إليها مشكلات أخرى محلية، وفضلا عن أن واجبنا الأول يقتضي أن نعالج مشاكلنا قبل أن نعالج مشاكل الغير أو مشاكل الإنسانية العامة. والذي لا شك فيه أن من واجبنا أن ننظر في عالمنا العربي إلى مشكلة القراءة وضرورة حلها نظر البلاد المتطورة التي أصبحت تنظر إلى القراءة والتزود بالمعرفة نظرها إلى الغذاء المادي سواء بسواء، بحيث تستمر عملية القراءة والتثقيف باستمرار الحياة، ولا تتوقف إلا بالموت الذي تتوقف به أيضا عملية التغذية البدنية. والمشكلة على هذا الوضع تتطلب تنظيما وتخطيطا لمراحل هذه التغذية الروحية المتتابعة.
فيجب أن ننظر أولا في كيفية إنتاج الكتب التي نحتاجها لهذه التغذية العامة، كما يجب أن ننظر في كيفية توزيع هذا الغذاء، وتمكين عامة الشعب منه، وتسهيل وسائل الاستفادة به.
وإنتاج كتب العلم والأدب والفن والثقافة المبسطة يتطلب أولا وجود العلم والأدب والفن والثقافة في لغتنا العربية.
وليس بخاف أن نهضتنا الثقافية والعلمية والأدبية والفنية الحديثة التي أخذت تظهر في عالمنا العربي منذ أوائل القرن التاسع عشر، قد بدأت متأخرة عنها في العالم الغربي بثلاثة قرون على الأقل؛ إذ إن النهضة الأوروبية الحديثة قد أخذت تظهر ابتداء من القرن السادس عشر في البلاد الأوروبية.
ولا يجوز أن يتصور أحد أننا سنحتاج إلى ثلاثة قرون أخرى لكي نعوض ما فات، وذلك بشرط أن نعتبر الحضارة والثقافة والعلم الأوروبي وغير الأوروبي ملكا لنا كما هو ملك للأوروبيين والأمريكيين والروس، فهو ليس من إنتاجهم وحدهم، بل هو إنتاج استند إلى تراث بشري كبير تجمع في العصور القديمة والوسطى التي ساهم فيها عالمنا العربي والشرقي مساهمة كبرى في وجود هذا التراث.
صورة المعرفة:
والصورة التي يحسن أن تتخذها كتب المعرفة والثقافة المبسطة تحتاج إلى شيء من النظر والدراسة، فهل تتخذ هذه الكتب صورة العرض التقريري أم تتخذ إحدى الصور الأدبية أو الفنية التي تغري بالقراءة، وتنشط الإقبال عليها، وتعتمد على الحيل الأدبية المختلفة كالإشارة والتشويق في صورتي القصة والدراما؟
وهنا نواجه أيضا نظريتين تربويتين مختلفتين: إحداهما تقول بأن الثقافة والمعرفة لا يمكن تحصيلهما تحصيلا صحيحا مفيدا إلا في حالة نفسية جادة، وإرادة صادقة، واستعداد لبذل المجهود المطلوب والصبر عليه. وهذه الحالة النفسية الخاصة لا تتوفر إلا لقارئ الكتاب المؤمن بهدف ما يبذل من جهد، والمستعد لبذل هذا الجهد والصبر عليه. وهذا هو قارئ كتاب العرض التقريري.
وأما قارئ القصة والدراما التي تحتال بصور الأدب والفن لنشر الثقافة والمعرفة، فقارئ غير مؤهل نفسيا لتحصيل هذه المعرفة وتلك الثقافة، ولا جدوى من الاحتيال عليه لتلقينه تلك المعرفة أو الثقافة.
ولا وجه للمقارنة هنا بين مثل هذا القارئ والمريض الذي نحتال عليه لتجريعه الدواء بتغليفه في برشامة يسهل ابتلاعها؛ وذلك لأن القراءة لا يمكن أن تكون مجدية إلا إذا أصبحت عملا إراديا مستمرا.
وفي رأينا أنه من الممكن التوفيق بين النظريتين والجمع بينهما في عملية التثقيف الشعبي الواسعة التي نريدها؛ وذلك بأن يهدف المشرفون على هذه العملية إلى تأليف سلسلتين من هذه الكتب لا سلسلة واحدة، وأن تتخذ السلسلة الأولى الأكثر تبسيطا صورة القصة أو الحوار، فمن أمثال تلك الكتب يمكن أن يبتدئ القارئ في تذوق طرف من تلك المعرفة أو الثقافة والإحساس بجدواها على حياته، وبذلك نستثيره لطلب المزيد من هذه المعرفة أو الثقافة، ونشجعه على بذل الجهد والصبر عليه في مطالعة السلسلة الثانية التي تتخذ طابع العرض التقريري، وتتوسع في تقديم المعرفة أو الثقافة وتثبيتهما في نفس القارئ في هذه المرحلة الثانية من مراحل تثقيفه. والعيب الوحيد الذي يرد على هذا الاقتراح هو طبعا مضاعفة الجهد والنفقات في إعداد سلسلتين بدلا من سلسلة واحدة. وإن كان مثل هذا العيب يمكن تلافي بعضه بتبصير القراء بأنهم يستطيعون اختيار هذه السلسلة، أو تلك حسب مستوى ثقافتهم ووعيهم وإرادتهم وصبرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتبس من كتاب: "الثقافة وأجهزتها" لــ "محمد مندور".