حركة القرآن المجيد في النفس والمجتمع والتاريخ

0 200

 أنجز الشيخ أبو جرة سلطاني الجزائري تفسيرا للقرآن الكريم في (25) جزءا، بعنوان (حركة القرآن المجيد: في النفس والمجتمع والتاريخ) وتكمن أهمية هذا التفسير كون مؤلفه صاحب تجربة ثرية في الوعظ والدعوة والتعليم الجامعي والعمل السياسي والبرلماني والحكومي، فضلا على تخصصه العلمي في اللغة العربية وقرضه الشعر ومؤلفاته السابقة وكتاباته الغزيرة في حقول فكرية وثقافية عديدة، ما جعله واحدا من رموز الفكر الإسلامي المعاصر.

وبحسب مؤلف هذا التفسير، فإن أكثر ما في التفاسير تكرار بلغة لا يفهم كثير من هذا الجيل مراميها، فكان من دواعي عمله محاولة قراءة كلام الله بلغة تحرر العقل من الأحكام الجاهزة ومن القوالب النمطية بتحريك كلام الله في نفس الإنسان وفي المجتمع الذي يعيش فيه باستدعاء التاريخ الذي تم فيه إخراج خير أمة، واستصحاب (تاريخ التدين) وإعادة قراءة القرآن المجيد قراءة متحركة في الزمان والمكان والإنسان.
 
لم يلتزم المؤلف منهجا واحدا في فهم سور القرآن الكريم لاعتقاده أنه كتاب هداية ودستور حياة ومنهج عيش، وأن لكل سورة (روحها) وحركتها وجوها العام ومجال عملها. فكلام الله سبحانه -وفق المؤلف- (وحدة إيمانية) مقسمة إلى (114) سورة؛ فما نزل قبل الهجرة عرف بالغيب، ورسخ عقيدة اليوم الآخر، وربط الإنسان بخالقه جل جلاله، وما نزل بعدها جاء متمما للأخلاق ومؤسسا لمجتمع مثالي على غير مثال سابق.
 
والالتزام بترتيب السور في المصحف الإمام أوحى للمؤلف بـ (وحدة السورة) ضمن الوحدة الإيمانية للقرآن كله؛ وذلك بالتعرف على أسباب نزولها ومعرفة خصائصها، فكان تفسيرا دعويا بأسلوب متحرك في النفس والمجتمع والتاريخ، وبعمق اجتماعي غايته البحث عن الوسائل الكفيلة بإعادة إخراج أمة الإسلام بفهم متجدد يحاول نقل كلام الله تعالى من التاريخ إلى ضمير الإنسان بتحديد الغاية، وليس بتقييد الإرادة، وببيان عمق الفجوة بين زمنية الإنسان وحيوية القرآن، أو بين المحدود والمطلق.
 
والمقصد الرئيس من هذا التفسير -بحسب المؤلف- نقل الوحي من المصحف إلى حركة الحياة بموالاة الطرق على أبواب القلوب المغلقة والعقول الجاحدة بنداء الله الذي يخاطب الإنسان فردا بصفته الآدمية، يدعوه إلى عبادته وحده، ويقدم له ألف دليل على أن كلامه حق، وأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
 
وجديد هذا العمل أن مؤلفه استفاد مما وصل إليه العقل البشري من اختراع يعمل على تحريكه في واقع الناس باستدعاء حي للقرآن المجيد، يقنع العقل أن كلام الله هو الحياة وهو الحركة وهو الميزان...وأنه مطالب بالتفكر فيه كتفكره في الكون من حوله. فجل المفسرين المحدثين عالة على السابقين من السلف، وأغلب التفاسير استنساخ ممن سبق بذريعة الاتكاء على المأثور، أو خشية إعمال الرأي في كلام الله، أو الخروج عن منهاج الذين عبوا من المنهل الصافي قبل أن تكدره دلاء الخائضين.
 
ويذكر المؤلف أن ما بين أيدينا من تفاسير لم تخرج عن واحد من خمسة سبل: إما سبيل التلخيص والاختصار لتخفيف عبء المطولات المستعصية عن القراءة لمن يستعجل الفهم ويقلي القراءات الدسمة. وإما محقق للمادة العلمية أو مدقق لما فيها من نصوص ونقول وآثار...وهو عمل علمي لا غنى للأمة عنه. وأما صاحب اختصاص يطوع كلام الله لخدمة ما تخصص فيه فيصير تفسيره مدونة فقه أو موسوعة علم أو سفر تاريخ أو كتاب لغة وبديع وبيان وجماليات صياغة ماتعة. وإما متنطع لا يرى للسلف أي قيمة علمية، فينطلق من فراغ ليفسر كلام الله برأيه فينتهي "تفسيره" إلى موت بطيء بظهور تفسير برأي مغاير ينقضه. وإما مجتهد مجدد يضيف إلى ما سبق ما تناهى إليه من علم مستشرف يوظفه لفهم كلام الله، فيضيف باجتهاد منضبط ما غفل عنه السابقون، أو ما لم يكن لزمانهم به حاجة.
 
ومال المؤلف إلى الاتكاء على المأثور أساسا لإقامة بناء جديد على أسس قديمة من منطلق أنه ليس كل قديم أصيلا، وليس كل جديد دخيلا، إنما الأصيل ما طابق الحق، والدخيل ما اتبع الأهواء، وكانت الخلاصة التي انتهى إليها: أن القرآن كلام متجدد، ولكل جيل عطاؤه من الفهم، وحظه من فتوح الله على العارفين.
 
وقرر المؤلف في هذا السياق أمرا مهما، يغفل عنه البعض، وهو أن جهد المفسرين جميعا إنما هو محاولة  لفهم كلام الله بلغة زمانهم، وبما تناهى إلى عقل كل مفسر من علم، والعملية أشبه بشبكة الإنارة، والمفسرون مصابيح يستمدون نورهم من (مولد الضوء) فلا أحد يجزم أن فهمه للقرآن المجيد هو النسخة النهائية لمدونة الوحي، إنما هو تراكم معرفي لا يخرج عن الجهد البشري الذي يضيف كل مجتهد جديدا لمن سبقوه، ولو كان الأمر غير هذا لفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، وأراح البشرية من عناء البحث، ولكنه لم يفعل لعلمه أن القرآن كتاب حياة، والحياة ضرورة متجددة يحدث فيها للناس من الأقضية بمقدار ما يحدثون لأنفسهم من حركة.
 
وقد انتقد المؤلف أدعياء التنوير الداعين لتفسير للقرآن بالقطيعة مع التراث، مقررا أن ذلك غير ممكن البتة لأسباب ثلاثة، لا يحب "التنويريون" سماعها ولا التسليم بصحتها:
 
أولها: أن الذين عاصروا نزول الوحي أولى من غيرهم بفهمه؛ لأنهم يعرفون أسباب نزوله وزمان نزول كل آية أو سورة ومكانها ولم تنزلت؟ وما هي مقاصدها الكبرى؟
 
وثانيها: أن اللغة التي نزل بها الوحي لم تعد مستعملة اليوم، فلسان القرآن المجيد عربي مبين، ولسان كثير من التنويريين صحفي هجين، أو هو أكاديمي جاف.
 
وثالثها: أن القرآن كتاب هداية ومنهج حياة، والهداية يقين بالغيب، ومنهج الحياة معايشة وليس "موسوعة معارف" فإبليس كان عالما بفقه السجود وعارفا أن بعد الموت بعثا وحسابا وجنة ونارا، ولكنه فسق عن أمر ربه بظنه أن النار أفضل من الطين.
 
وانتقد المؤلف أيضا الداعين إلى تفسير القرآن الكريم استنادا إلى الجذر اللغوي فحسب، مبينا أن إتقان اللغة التي نزل بها القرآن المجيد وسيلة لا حيدة عنها لفهم معانيه، لكن القرآن نزل بلسان أوسع من اللغة، فلا يكفي تتبع (الجذر اللغوي) لفهم المجاز، وهو كثير في كتاب الله تعالى، فـ (العمى) مثلا عمى بصيرة وليس بصرا، والاستهزاء والمكر والنسيان...إذا نسبت لله (جل جلاله) حملت على المشاكلة والمجاز، وليس على حقيقة ما يدل عليه أصل الكلمة أو أصل نشأتها أو جذرها.
 
فالتفسير اللغوي لكلام الله هو شرح لألفاظه يشبه ترجمته إلى لغة غير العربية، فيقال: هذه معاني القرآن بالفرنسية أو الإنجليزية أو الروسية أو الصينية...إلخ، ولا يقال: هذه ترجمة كلام الله جل جلاله. فألفاظ القرآن ليست جذورا معجمية صرفية أو صوتية أو إعرابية داخلة في أبنية الكلمات، إنما هي حياة وحركة ونور وشفاء لما في الصدور. وفهمها أوسع من أن يحصر في تدقيق أصل الكلمة؛ لأن ألفاظ القرآن تتعانق وتتعاشق وتتجاذب، حتى أنه يستحيل استبدال لفظة بمرادفتها.
 
فالقرآن -بحسب المؤلف- بحر زخار، ومن المفسرين سابح بشاطئه، وغائص في أغواره، ومتزحلق على صفحته، وغارق في أمواجه. والنص القرآني حر ليس لفقيه عليه سلطان، ولا هو رهينة لأصولي، ولا حبيس لمؤرخ، أو لغوي أو عالم موسوعي، والادعاء بتحريره من سلطة هؤلاء هي دعوة لاحتلاله من دعاة تحريره، وإلا فما الداعي لاحتكاره من سلطان معاند؟
 
أما بالنسبة لدعاة (التفسير المفتوح)، فإن المؤلف يضع ثلاثة ضوابط لهذا النوع من التفسير، وهي:
 
- إتقان اللغة التي نزل بها الوحي.
 
- الاطلاع على آراء السابقين، وتأمل ما فيها من جهد وصواب.
 
- اجتناب الغلو والاعتداد بالرأي والمجاملة على حساب الحق.
 
وما يأتي بعد هذا فاجتهاد بشري محكوم بما تتحمله النصوص بغير شطط ولا تفلت. وهو ما حاول المؤلف عمله في تفسيره، وذلك بربط منطوق الوحي بمفهوم العصر لإعادة إحياء الدين في النفوس والعقول بما تم به الإحياء أول مرة، بلغة سهلة وبلسان عالمي منفتح على العصر.
 
* مادة المقال مستفادة من حوار أجرته قناة الجزيرة مع المؤلف بتصرف.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة