من بركات القرآن على لغة العرب

0 212

حينما يتأمل الإنسان  كلام الصدر الأول من أهل الإسلام يرى كلامهم فيه الحث على اتباع الدين والتمسك به، وإعلاء كلمة الحق، والعمل للآخرة، والأخذ من الدنيا بنصيب، والتحذير من الاسترسال مع الشهوات والأهواء، فترى رسائل هذا العصر وخطبه تردد صدى الكتاب العزيز حاثة على الفضيلة منفرة من الرذيلة، وكلها جاء فيه اللفظ تابعا للمعنى لم يتعمد فيه ضرب من ضروب الصنعة الكلامية، صادرة عن شعور حي ووجدان صادق، ولذا نفذت إلى سويداء القلوب وأصابت مواقع الوجدان.

ويرى الناظر إلى حالة اللغة بعد ذلك أنها انتقلت إلى حالة أوسع مما كانت عليه؛ لانتقال القوم من البداوة إلى الحضارة، ومن سكنى الخيام إلى سكنى البيوت والقصور، فاتسعت مداركهم وزادت تجاربهم، وقوي فيهم الخيال، وكثرت التصورات، وانتقلوا من حال إلى حال، فأشعر ذلك نفوسهم معاني جديدة ووجدانا وعلما لم يكونا يعلمونه من قبل، فاحتاجوا إلى التعبير عن ذلك بما يلائمه من الألفاظ والتراكيب، وساعدهم على صوغ العبارات في القالب اللائق بها قوة اللغة واتساعها وأخذهم بزمامها، وقد ظهر ذلك في خطبهم ورسائلهم ظهورا بينا.. وكانت موضوعاتها في الغالب الوعظ والإرشاد، والذود عن الحقوق، وإيقاف الأطماع عند حدها، وكبت الخارجين، وتأليف الأحزاب، وتوحيد الكلمة.

وكانت العبارات لا تزال آخذة أسلوبا حيا مؤثرا مع إحكام صنعة وحسن عبارة وجودة مقاطع وتجلى ذلك في الصور التالية:
1- الخطابة:
كانت خطب الصدر الأول من الإسلام في أسمى طبقات الفصاحة والبلاغة كما ترى ذلك في خطب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين،  والفضل في ارتقاء الخطابة يرجع إلى الكتاب المبين من وجوه كما بين ذلك صاحب كتاب "أشهر مشاهير الإسلام" حيث قال: "إن القرآن الكريم وإن نزل بلغة القوم التي بها يتخاطبون وبفصاحتها يتفاخرون، إلا أن أساليبه العالية التي أعجزت خطباءهم وفصحاءهم وأخذت بمجامع قلوبهم ألبستهم ملكة من البلاغة في تخير الأساليب غيرت ملكتهم الأولى، وأطلقت ألسنتهم من الوحشية والتعمق الذي كان ديدن كثير من خطبائهم، حتى إنهم كانوا يعيبون الخطيب المصقع إذا لم يكن في كلامه شيء من آي القرآن؛ روى الجاحظ أن العرب كانوا يستحسنون أن يكون في الخطب يوم الحفل وفي الكلام يوم الجمع آي من القرآن، فإن ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار وحسن الموقع".

إن القرآن ـ بما هذب من أخلاقهم، وألان من طباعهم، وعدل من شيمهم ـ أدخل من الرقة على عواطفهم ما رق به كلامهم وكثر للمعاني المؤثرة في النفوس اختيارهم في مخاطبتهم وخطبهم.

2- النظم:
قد انصرف العرب عن الشعر والمنافسة فيه في أول عصر الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا، ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وأثاب عليه فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه، وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة، وكان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس، فيقف لاستماعه معجبا به.
ثم جاء من بعد ذلك الملك والدولة العزيزة، وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها، ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم، ويحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان، والعرب يطالبون وليدهم بحفظها.

ولم يزل هذا الشأن أيام بني أمية وصدرا من دولة بني العباس، وكان القرآن إضافة نوعية وثراء كبيرا للشعراء والأدباء، قال ابن خلدون: "إن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة من كلام الجاهلية في منثورهم ومنظومهم، فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق وغيلان ذي الرمة والأحوص وبشار، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، في ترسلهم وخطبهم ومحاورتهم للملوك؛ أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاورتهم، والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة، والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن الكريم والحديث الشريف اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثلهما؛ لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم، وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقا من أولئك، وأرصف مبنى وأعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة".

وقد امتاز الشعر في هذا العصر ببلاغة في المعنى، ومتانة في التعبير، وإحكام في التركيب، مع رقة وحسن تصرف في القول، وسعة في التصور فاق في ذلك الشعر الجاهلي.
ولم يزل للشعر من المكانة في النفوس في العصر الأموي وصدر من العصر العباسي مثل ما كان له في العصر الجاهلي، وإن كان بعض المخضرمين كالحطيئة والإسلاميين كجرير وغيره، اتخذوه صناعة للتكسب وطلب الرزق من السادات والأمراء والخلفاء؛ فإن ذلك لم يحط من قدره ولم يخضد من شوكه، ومن شواهد ذلك ما رواه الجاحظ في البيان عن أبي عبيدة قال: كان الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ يقول: نميري كما ترى، فما هو إلا أن قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير .. .. فلا كعبا بلغت ولا كلابا
حتى صار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر.

وروى الجاحظ أيضا عن أبي عبيدة قال: كان الرجل من بني أنف الناقة إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فما هو إلا أن قال الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم .. .. ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟
حتى صار الرجل منهم إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني أنف الناقة.

3- العلوم والمعارف:
جاء القرآن المجيد بحكمه السامية، وأحكامه العادلة، كافلا لمن عمل به سعادة الدنيا والآخرة، فوجد فيه المسلمون غنيتهم، وجعلوه ـ هو والسنة النبوية ـ عمدتهم ومرجعهم مدة الخلفاء الراشدين وصدرا من الدولة الأموية.
وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يفهمون دقائق الكتاب، ويدركون حكمه وأسراره، ويعرفون أحكامه من غير احتياج إلى تعلم العلوم اللسانية كالنحو والصرف وعلوم البلاغة ومتن اللغة؛ لأن الكتاب كان متنزلا بلغتهم التي هم بها يتخاطبون، وكانوا على علم تام بالحوادث التي نزل فيها القرآن وبأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ وأنواع النسخ، والمحكم والمتشابه والمجمل والمفصل إلى آخر علومه التي أفردها الأئمة بالتأليف.
وغاية الاشتغال بهذه العلوم اللسانية إنما هو الوصول إلى معرفة اللغة كما كانت تعرفها العرب، ولم يكن لديهم من بقايا قدمائهم في العلوم الدنيوية إلا البعض كالطب الذي ورثوه عن أسلافهم.

ولا يذهبن بك الوهم إلى أن الدين الإسلامي يصد عن الاشتغال بالعلوم والفنون الدنيوية، إذ الكتاب العزيز جاء حاثا على النظر في ملكوت السموات والأرض، منبها إلى الانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من هذا الكون بصريح العبارة في الآيات العديدة، غير أن المسلمين في أول ظهور الإسلام كان يمنعهم عن الاشتغال بهذه العلوم انصرافهم إلى القيام بدعوته وتصديهم لتهذيب جميع العالم وترقيته وتخليص من حولهم من الأمم من شوائب الأوهام والرذائل. فلما علت كلمة الإسلام، وارتفعت رايته؛ وجهت العناية إلى تلك العلوم الدنيوية في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، وقد ظهرت آثار العلوم العقلية في أوائل القرن الثاني، وترجمت جملة من الكتب العلمية والصناعية.

وأما البراعة في الآداب من العلم بوقائع العرب وتاريخهم، وقول الشعر، وإنشاء البليغ من النثر؛ فإنها قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغا لم تبلغه أمة قط في مثل مدتها.
وقد كان الخلفاء من بني أمية يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء والخطباء والعلماء، وكذا الدولة العباسية، وأخبار المهدي مع المفضل وحماد وحديث الرشيد مع الأصمعي حلية تلك القلادة.
وقال الإمام أبو الحسن بن سعيد العسكري: "بلغ من عناية بني أمية وشغفهم بالعلم أنهم ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر أو خبر أو يوم من أيام العرب؛ فيبردون فيه البريد إلى العراق حتى قال أبو عبيدة: "ما كنا نفقد في كل يوم راكبا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة يسأله عن خبر أو نسب أو شعر.
ولم يزل المأمون حين دخل العراق يراسل الأصمعي في أن يجيئه ويحرص على ذلك، والشيخ يعتذر بضعف وكبر ولم يجب، فكان الخليفة يجمع المسائل وينفذها إليه إلى البصرة.

وكان وضع علم النحو في آخر عهد الخلفاء الراشدين بسبب انتشار اللحن، وأول من وضعه وأسس قواعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وأخذه عنه أبو الأسود الدؤلي وأتمه.
قال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري في كتابه "تاريخ الأدباء" ما نصه: "وسبب وضع علي ـ رضي الله عنه ـ لهذا العلم ما روى أبو الأسود قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم)، فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إلي الرقعة وفيها مكتوب: "الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم: ما أنبأ عن المسمى، والفعل: ما أنبئ به، والحرف: ما أفاد معنى"، وقال لي: انح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر (وأراد بذلك الاسم المبهم). قال: ثم وضعت بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى أن وصلت إلى باب إن وأخواتها، فكتبتها ما خلا "لكن"، فلما عرضتها على أمير المؤمنين أمرني بضم "لكن" إليها، وكنت كلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكفاية، فقال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! فلذا سمي "النحو".

وأخذ عن أبي الأسود جمع من الطلاب، من أشهرهم نصر بن عاصم المتوفى سنة 89 هـ بالبصرة، وهو واضع النقط والشكل للمصحف، وجاء بعده جمع من أئمة العربية أحكموا ترتيب القواعد وأكثروا من الأدلة والشواهد.

وهكذا نجد أن القرآن أفاد كل العلوم، وطورها وحفز العقول وأنارها، وكيف لا وهو الكتاب المبارك {كتب أنزلنه إليك مبرك ليدبروٓا ءايتهۦ وليتذكر أولوا ٱلألبب}(سورة ص).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة