- اسم الكاتب:اسلام ويب
- التصنيف:أقليات وقضايا
إن الشاعر العربي يقول الشعر بالبديهة؛ لحدة خاطره، فيرتجل القول ارتجالا، وقد يتعمد القول في بعض الأحيان ويجهد خاطره فيه، فقد كان لزهير بن أبي سلمى قصائد لقبت بالحوليات، كان ينظم الواحدة منها ثم يهذبها بنفسه ثم يعرضها على أصحابه فلا يشهرها حتى يأتي عليها حول.
وقد ولج الشعراء في عصر الجاهلية أبوابا كثيرة من الشعر، فوصفوا، ومدحوا، وهجوا، وفخروا، ودونوا الأخبار، وضربوا الأمثال، ورغبوا، وأرهبوا، ولم يتركوا شيئا وقع تحت حسهم حتى تناولوه بمقالهم، فأجادوا وأبدعوا مع سهولة في اللفظ ومتانة في التركيب وتوخ للحقيقة وبعد عن الغلو.
ولقد تركوا فيما تركوه من أشعارهم ما يمكن أن يستخرج منه بيان لعاداتهم وسائر أحوالهم، ومع أن منهم من سكن البادية على خشونة في العيش قد أتوا في كلامهم بالعجب العجاب من السهولة والانسجام ورائع الحكم ورقيق الشعور والوجدان، كما ترى ذلك إن درست المعلقات وتأملت اعتذاريات النابغة، وسامرت إبداعيات الأعشى.
وكان الشعر ديوان علمهم، ومستودع حكمتهم، والضابط لأيامهم، وقيد كلامهم، والحاكم لهم، والشاهد عليهم، وله من نفوسهم أسمى مكانة وأرفع قدر.
ومما يدلك على علو قدر الشعر أن القبيلة من العرب كانت إذا نبغ فيها شاعر أتتها القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن كما يصنعن بالأفراح، وتباشروا به؛ لأنه يحمي أعراضهم، ويدفع عن أحسابهم، ويخلد مآثرهم، ويشيد بذكرهم.
وكان للشعر تأثير في النفوس وسلطة عليها، حتى كانت تخشى بأسه الأمراء وتتحاماه الكبراء، وطالما وضع قوما ورفع آخرين.
قال الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين) "ومما يدل على قدر الشعر عندهم بكاء سيد بني مازن مخارق بن شهاب حين أتاه محمد بن المكعبر العنبري الشاعر فقال له: إن بني يربوع قد أغاروا على إبلي، فاسع لي فيها، فقال: كيف وأنت جار بني ودان؟ فلما ولى عنه محمد حزن مخارق وبكى حتى بل لحيته، فقالت له ابنته: ما يبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي وقد استغاثني شاعر من شعراء العرب فلم أغثه؟! والله لئن هجاني ليقضمنني قوله، ولئن كف عني ليقتلنني شكره، ثم نهض فصاح في بني مازن؛ فردت عليه إبله".
ومما رواه صاحب (الأغاني) وغيره أن أعشى قيس كان يأتي سوق عكاظ كل عام، فيتجاذبه الناس في الطريق للضيافة؛ طمعا في مدحه إياهم والتنويه بهم في عكاظ، فمر يوما ببني كلاب وكان فيهم رجل يقال له المحلق وكان مئناثا مملقا له ثماني بنات، لا يخطبهن أحد لمكان أبيهن من الفقر وخمول الذكر، فقالت له امرأته: ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر وإكرامه، فما رأيت أحدا أكرمه إلا وأكسبه خيرا؟ فقال: ويحك ما عندي إلا ناقتي!، فقالت: يخلفها الله عليك.
فتلقاه قبل أن يسبقه أحد من الناس، وكان الأعشى كفيفا يقوده ابنه، فأخذ المحلق بخطام الناقة، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطام ناقتنا؟ فقيل: المحلق، قال: شريف كريم، ثم قال لابنه: خله يقتادها، فاقتادها إلى منزله وأكرمه ونحر له الناقة وجعلت البنات يدرن حوله ويبالغن في خدمته، فقال: ما هذه الجواري حولي؟ فقال المحلق: بنات أخيك، وهن ثمان نصيبهن قليل، فقال الأعشى: هل لك حاجة؟ فقال: تشيد بذكري؛ فلعلي أشهر فتخطب بناتي، فنهض الأعشى من عنده ولم يقل شيئا، فلما وافى عكاظ أنشد قصيدته التي أنشأها في مدحه، وهي نيف وأربعون بيتا، وفيها يقول:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
فسارت القصيدة وشاعت في العرب، ولم تمض سنة على المحلق حتى زوج بناته ويسرت حاله.
وكان لشعراء العرب أنفة من التكسب بالشعر، حتى نشأ النابغة الذبياني قبيل الإسلام فمدح الملوك وقبل الصلة على الشعر، وجاء بعده الأعشى وقد أدرك الإسلام ولم يسلم فجعل الشعر متجرا وانتجع به أقاصي البلاد، وقصد ملك العجم فأثابه وأجزل عطيته، وكان زهير بن أبي سلمى ممن أفاد بشعره بمدائحه لهرم بن سنان.
على أن شيئا من ذلك لم يضع من قدر الشعر ولم يحط من قيمته؛ لقلة من كانوا يتكسبون بشعرهم في ذلك العصر.