بين العمل والكسل

0 364

كان الأنبياء والسلف الصالح يعيشون من كسب أيديهم ويحترفون، فقد قال الله تعالى في حق داود عليه السلام [وعلمناه صنعة لبوس لكم] (سورة الأنبياء) أي: عمل الدروع من الحديد، فقد علمه الله تعالى صنعة الحديد، فصار يحكم منها الدروع، فاستعان بها على أمره، وكان زكريا عليه السلام نجارا،  واشتغل نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بالتجارة بالشام للسيدة خديجة رضي الله عنها، وبعد النبوة كان دائب العمل والجهاد؛ وقد ورد عنه في الأثر(إن الله يحب العبد المحترف)رواه الطبراني، وقال عمر رضي الله عنه: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة"، وقال رضي الله عنه: "إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني".

وكان الصلحاء والأصفياء يتخذون لهم صنائع، يكتسبون بها وينفقون منها؛ توخيا للإنفاق من الحلال، وتنزها عن الأخذ من بيت المال، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: "لا خير فيمن لا يجمع المال من حله، يخرج منه حقه، ويصون به عرضه" قال الشاعر:
ولا تجمع الأموال إلا لبذلها    كما لا يساق الدر إلا إلى النحر

والمال أصل السؤدد والرياسة إذ به تستجمع أسبابهما، وقد انقاد الناس قديما وحديثا للغني؛ لأن القلوب  تستمال بالمال، قال ابن المعتز:
إذا كنت ذا ثروة من غنى      فأنت المسود في العالم

وسئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما تقول في رجل قعد في بيته أو مسجده، وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ قال: هذا رجل جهل العلم"، وقيل: غبار العمل خير من زعفران البطالة.
فلم أر بعد الدين خيرا من الغنى    ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر

وحسب ترك العمل ذما أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الكسل، وقال علي رضي الله عنه: "خلق التواني والكسل، فزوجوهما فنتج من بينهما الفاقة"، وقال رضي الله عنه: "الحركة ولود والسكون عاقر"، ولا ينشأ عن البطالة إلا المفسدة.
ليـس التـقـي بـمـتـق لإلهه          حتي يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما يجني ويكسب أهله ويطيب من لغط الحديث كلامه


يقول رفاعة الطهطاوي: "وبالجملة فقد تولع العقلاء على اختلافهم بإمعان الأنظار وإعمال الأفكار في أمور يظهر للعامة أنها حقيرة، وهي عند أذكياء الخاصة خطيرة، وبسبب العمل كسيت الأرض بالعلوم والمعارف، فكانت العلوم اللسانية والمعارف الإنسانية نتاج العمل لا الكسل.
فالوضع الأولى في سائر العلوم هو تصور قواعد أولية ابتكارية، لا تزال تأخذ في الزيادة والاستكمال، ويتفرع منها فروع تتسع على مدى الأيام والليال، فيكون للعلم بهذا المعنى عدة من الواضعين، وجملة من الأفاضل الموسعين؛ كالإمام علي رضي الله تعالى عنه، فإنه قيد الألسنة بعلم النحو، حيث أملى على أبي الأسود الدؤلي أقسام الكلام، وقال له: "تتبعه وزد فيه ما وقع لك مما يلائم المقام؛ لتمحو بذلك من اللحن ما خالط اللسان العربي مما كاد يفسده من رطانة الإعجام"، فوضع أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو التي فهمها له، ثم جاء بعد أبي الأسود سيبويه فوضع كتابه الذي كل من جاء بعده منه يغترف، وبتقدمه عليه يعترف، وإذا أطلق في عرف النحاة لفظ الكتاب فإليه ينصرف، ووضع الخليل بن أحمد علم العروض، وجعل له ميزانا للشعر، وصاغ له من التفاعيل أجزاء ثمانية صيرها لوزنه كالمثاقيل، وها هي أنوار تلك العلوم النافعة، على جميع آفاق الدنيا ساطعة، وهي ثمرات الأعمال الصادرة عن الانسان".

ومن الحكم: من طلب جلب، ومن جال نال، ومن جسر أيسر، ومن هاب خاب، فقد فاز بالدر غائصه، وحاز للصيد قانصه، والجراءة من أسباب الظفر وغلبة الأقران، والشجاع يعرف بالإقدام ولو على الضرغام، وبضده الجبان والمتواني الكسلان، لا سيما الشاب القليل الحيلة، والملازم للحليلة، فمن دام كسله خاب أمله، ويقال: الخيبة نتيجة مقدمتين الكسل والفشل، وثمرة شجرتين الضجر والملل، ويقال: إن الحرمان شعاره الكسل، ودثاره التسويف والعلل، قال بعضهم:
لا تصحب الكسلان في حالاته كم صالح بفساد آخر يفسد
وقد قيل: فضل الكسلان يدفن معه بدون أن تعود منه على نفسه أو غيره أدنى منفعة.
فكل تقدم في الدنيا يتم بالعمل والجد، وكل تأخر وفشل قرين الكسل والقعود.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة