الثقافة والتربية الأخلاقية

0 56

رباط الثقافة بالتربية رباط قديم، ذلك لأن الثقافة لا قيمة لها ما لم ترتبط بتربية تراعي مفاهيم الأمة وقيمها، وكلمة التربية في جذرها الأصلي : تفعلة، من ربا يربو، إذا زاد ونما، يعرفها العلامة محمد عبد الله دراز بأنها: "تعهد الشيء ورعايته بالزيادة والتنمية والتقوية، والأخذ به في طريق النضج والكمال الذي تؤهله له طبيعته".
وحقيقة الثقافة المثمرة هي التي ترتكز على التربية الإنسانية الكاملة التي تتناول قوى الإنسان وملكاته جميعا.

فهي تنمية لجسمه، وحفظا لصحته، وهذه هي التربية البدنية، وتقويما للسانه وإصلاحا لبيانه، وهي التربية الأدبية، وتثقيفا لعقله وتسديدا لتفكيره وأحكامه، وهي التربية العقلية، وتزويدا له بالمعلومات الصحيحة النافعة، وهي التربية العلمية، وترويضا له على وسائل الكسب لعيشه، وهي التربية المهنية، وإيقاظا لشعوره بجمال الكون، ومعاونة له على التعبير عن هذا الشعور؛ وهي التربية الفنية، وتعريفا له بحقوق المجتمع الذي يعيش فيه، وبما فيه من نظم وقوانين؛ وهي التربية الاجتماعية والوطنية.

والتربية والثقافة صنوان ينهضان بالإنسان، ويقودان لبناء مجتمع الفضيلة والخير يقول صاحب كتاب" كلمات في مبادئ علم الأخلاق " : "التربية الصحيحة والثقافة العميقة تكون زادا للإنسان وتوسيعا لأفق شعوره بالأخوة العالمية؛ وهي التربية الإنسانية، وتوجيها مستمرا لأعماله على سنن الاستقامة، حتى تتكون منها العادات الصالحة والأخلاق الحميدة الراسخة؛ وهي التربية الخلقية، ثم تساميا بروحه إلى الأفق الأعلى بإطلاق؛ وهي التربية الدينية، ولقد يذهب الظن بالناظر في هذا البسط والتقسيم إلى أن "علم الأخلاق"، إنما يعني شعبة واحدة من بين هذه الشعب، وهي شعبة التربية الخلقية؛ وليس الأمر كما يوحي به هذا الظن، فإن سلطان الأخلاق منبسط على وجوه النشاط الإنساني كلها، لا يشذ عنه عمل تربوي ولا غير تربوي، ولا يتفاوت في حكمه نشاط بدني أو عقلي أو فني أو أدبي أو روحي"

إذن الفنان الذي يجافي بفنه قانون الحشمة واللياقة، ويهتك به ستر الحياء والعفاف يتصدى لمقت الضمير الحي، وإن لم تؤاخذه قواعد الفن.
والمعلم الذي يختار مادة تدريبه العقلي واللغوي للناشئين من أحاديث الرفث، وأقاويل التحريض على الهجر والإثم، يسيء من حيث يحسب أنه يحسن.
والمرشد الديني الذي يتوسل في الدعوة إلى دينه بوسائل الخداع والكذب، يرتكب جريمة من أشنع الجرائم.
وهكذا سائر أنواع التربية وشعبها؛ فإنها وإن اتخذت لها أهدافا أخرى اشتقت لنفسها منها أسماء معينة، إلا أنها يجب أن تخضع في وسائلها وأساليبها وبواعثها لقواعد الآداب، وأن تقيس ذلك كله بمقاييس الفضيلة.
وإنما تمتاز "التربية الأخلاقية" من بين سائر الشعب بأن هدفها القريب، وغايتها المباشرة، هي التدريب على السلوك الرشيد، وتكوين الخلق الحميد؛ فصلة علم الأخلاق بها أقوى وأقرب.

فلننظر في كنه هذه الصلة، وسنرى جانبا منها متفقا عليه، وجانبا مختلفا فيه.
يقول الشيخ محمد عبد الله دراز:" فأما القدر الذي لا خلاف فيه فهو أن علم الأخلاق هو أول الوسائل وأولاها بعناية المربين؛ لأنه هو المصباح الكاشف لمسالك الرشد والغي، ولأنه هو المعيار الذي توزن به نوايا العاملين وبواعثهم؛ فمن صادف سبيل الهدى مصادفة من غير قصد ولا شعور بإلزام الواجب فيه، كان مثله كمثل الذي يقضي بين الناس خبط عشواء، وهو جاهل بما يقضي فيه؛ فلا فضل له إن أصاب، بل هو أحد القاضيين اللذين في النار، كما جاء في نص الحديث الصحيح".

وأما القضية التي اختلفت فيها مذاهب الفلسفة منذ القدم، فهي أن العلم بالفضيلة هل يكفي في تحصيلها والتحقق بها؟ وبتعبير آخر هل علم الأخلاق وسيلة تامة في التربية الخلقية؟
أجاب "سقراط": أن نعم! فإن من عرف أن الهدف الذي تنزع إليه فطرة الإنسان هو سعادته الحقيقية، وأن الفضيلة هي الطريق الوحيد الموصل إلى ذلك الهدف، لا يمكن أن يخطئ طريقها، ولا يتصور أن يسلك أحد سبيل شقاوته وهو عالم به طائع مختار في عمله، فالأشرار وأراذل الناس لا ذنب لهم إلا جهلهم بحقيقة مقاصدهم، أو جهلهم بتحديد وسائلها؛ وعلاجهم إنما هو بتصحيح معلوماتهم، لا بتقويم نواياهم وعزائمهم، لأنهم لا ينوون إلا خير أنفسهم، ولكنهم يجهلون هوية هذا الخير، أو يجهلون وسائله، هكذا قرر مؤسس الفلسفة العملية.

أما تلميذه "أفلاطون" فقد اختلفت عبارته، فقرر في بعض مواضع من كتبه أنه ليس بالعلم وحده يصبح المرء فاضلا؛ فإن الرجل قد يعرف الشر ويأتيه، ويعرف الخير ولا يفعله، وإنه لو كانت الفضيلة تنتقل بالتعليم، كما تنتقل العلوم من عقل إلى عقل بالأدلة والبراهين، لاستطاع حكماء أثينا أن يجعلوا تلاميذهم فضلاء مثلهم.
وقال في موضع آخر إن الفضيلة التي لا تحتاج إلى تعليم إنما هي الفضيلة الفطرية الموروثة، التي لا تشعر بنفسها، أما الفضيلة الحقيقية فهي التي تعتمد على معرفة الخير ونيته.

ومن تأمل في كلا التقريرين من قول "أفلاطون" لم يجد بينهم اختلافا، ولم يجد في واحد منهما تأييدا لقول "سقراط": إن العلم بالفضيلة كاف في تحصيلها.
على أن مؤرخي الفلسفة يميلون في تفسير هذه المقالة إلى ما أشار إليه أفلاطون من أنه ليس المقصود بالعلم مجرد المعرفة التلقينية، أو الإدراك العقلي الجاف؛ بل المعرفة التي تمتد من العقل إلى القلب، وتصبح إيمانا عميقا، وقوة ملهمة متحمسة، قالوا: ولا ريب أن هذا الضرب من العلم كاف في نجاح التربية وإثمارها للفضيلة، حتى إن الذي يفعل السوء يبرهن بفعله على نقص في معرفته بالخير وإيمانه به.

يقول صاحب كتاب" كلمات في مبادئ علم الأخلاق " : "ونحن وإن كنا نوافق على أن المعرفة وحدها ليس لها كبير جدوى إن لم يكن لها رفد من قوة الإيمان، نرى مع ذلك أن ضم العنصرين غير كاف في تحقيق الفضيلة العملية، وأن التربية الناجحة لا غنى لها عن توافر عوامل طبيعية وعوامل إرادية، وأنه لا بد لها قبل كل شيء من إزالة الموانع والعقبات من طريقها.
ومن أخطر هذه الموانع البيئة السيئة والقدوة الضارة، التي لا ينكر أثرها في سلوك الناشئين؛ كما أن منها الميول المعارضة والعوائد المخالفة في سيرة الناشئ نفسه، ثم يجيء بعد ذلك عوامل إيجابية نبه عليها خاتمة فلاسفة اليونان، ونعني به أرسطو، حين قرر أن الإنسان ليس عقلا فحسب، كما زعم سقراط، وليس عقلا وعاطفة وكفى، كما ظن أفلاطون؛ بل هو إلى ذلك إرادة فعالة، وعزيمة نافذة، وإذن فليست الفضيلة علما وإيمانا ينزعان بصاحبهما إلى العمل مع قصور الهمة عن تحقيق هذه النزعة، بل هي عمل يبرز إلى الوجود، ويرى ضوء الحياة".

فهذه واحدة، والثانية أن هذا العمل حين يبرز إلى الوجود لا يكفي أن يقع مرة أو مرتين، بل يجب أن يتكرر ويستمر حتى يصبح عادة ثابتة، وخلقا راسخا، كأنه طبيعة ثانية، فلا بد إذن من رياضة وتدريب على العمل بما نعلم وتلك هي حقيقة التربية العملية.
وأخيرا فليست الفضيلة عملا آليا تسخيريا تمجه نفس فاعله، ويأباه طبعه؛ بل هي عمل انبعاثي محبب إلى القلب، حتى إن الذي يفعل الخير عادة، ولكنه لا يجد في نفسه أريحية له، ليس خليقا أن يسمى خيرا.

وإننا لنجد مصداق هذه النظرات الدقيقة السديدة في القرآن المجيد:[أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى](سورة النجم) وقوله سبحانه [ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون](سورة التوبة) وقوله تعالى : [ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم](سورة الحجرات).

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة