- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:من ذاكرة التاريخ
امتازت أمة الإسلام عن غيرها من الأمم بتعظيم العلم والسعي في تحصيله، واشتهر بين علمائها الضرب في الأرض والرحلة إلى أقطار الدنيا للقاء المشايخ وتلقي العلم منهم مشافهة..
قال الشيخ أبو غدة في كتابه "صور من صبر العلماء":
اعلم أن علوم الإسلام العظيمة لم تدون على ضفاف الأنهار، وتحت ظلال الأشجار والأثمار، وإنما دونت بظمأ الهواجر، وسهر الليالي على السراج الذي لا يكاد يضيء نفسه، وفي ظل العرى والجوع وبيع الثياب، وانقطاع النفقة في بلد الاغتراب، والرحلة المتواصلة المتلاحقة، والصبر على أهوال الأسفار، وملاقاة الخطوب والأخطار، والتيه في البيد، والغرق في البحار، وحلول الأمراض والأسقام، مع البعد عن الأهل والزوجة والأولاد والدار، ومع فرقة الأقارب والأحباب والأصحاب وفقد الاستقرار، فما أثر كل ذلك في أمانة علم أهلها، وما نقص من متانة دينهم، وما وهن من قوة شكيمتهم.
وذكر الإمام الكبير أبو محمد الرامهرمزي في كتابه "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" في وصف الأئمة الرحلة كلاما جميلا بعد أن أثنى على الله قائلا:
"ووكل بالآثار المفسرة للقرآن والسنن القوية الأركان، عصابة منتخبة، وفقهم لطلابها وكتابتها، وقواهم على رعايتها وحراستها، وحبب إليهم قراءتها ودراستها، وهون عليهم الدأب والكلال، والحل والترحال، وبذل النفس مع الأموال، وركوب المخوف من الأهوال، فهم يرحلون من بلاد إلى بلاد، خائضين في العلم كل واد، شعث الرءوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاه، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هما واحدا، ورضوا بالعلم دليلا ورائدا لا يقطعهم عنه جوع ولا ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر: صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه، بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فأمنت تمويه المموهين، واختراع الملحدين، وافتراء الكاذبين، فلو رأيتهم في ليلهم، وقد انتصبوا لنسخ ما سمعوا، وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، قد غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم، فانتبهوا مذعورين قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم، ثم عادوا إلى الكتابة حرصا عليها، وميلا بأهوائهم إليها لعلمت أنهم حرس الإسلام وخزان الملك العلام، فإذا قضوا من بعض ما راموا أوطارهم، انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين، يمشون على الأرض هونا، لا يؤذون جارا، ولا يقارفون عارا، حتى إذا زاغ زائغ، أو مرق في الدين مارق، خرجوا خروج الأسد من الآجام، يناضلون عن معالم الإسلام".
الرحلة أمرها قديم
والرحلة أمرها قديم، وقد ذكر القرآن الكريم رحلة سيدنا موسى النبي عليه الصلاة والسلام إلى الخضر ليتعلم منه علما أعطاه الله إياه، ولقي في ذلك السفر نصبا وتعبا وعنتا، ورأى من عجائب أمر الله ما رأى، ولم يستنكف أن يذهب إلى حيث يجد ما ليس عنده من العلم ليتعلمه. وأتاه متعلما متأدبا بأدب الطالب أمام شيخه كما ذكر القرآن قوله: {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا}.
وقد كان السابقون من المحدثين والفقهاء والعلماء يرحلون المسافات الطوال، يتنقلون بين الأقطار، ويجوبون الفيافي والقفار، على بعد الشقة وعظم المشقة وغول الطريق، ويتعرضون ربما للهلاك والأخطار، ليلتقوا أهل العلم والحفظ والإتقان، طلبا للحديث ربما الواحد، أو تيقنا من إسناد، أو طلبا لعلوه.
وإنما كان ذلك منهم امتثالا لأمر الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}[التوبة:122]، وتحقيقا لما حث عليه الرسول المعلم – عليه الصلاة والسلام – بقوله: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما؛ سهل الله له طريقا إلى الجنة)[أخرجه الترمذي]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من خرج في طلب العلم؛ فهو في سبيل الله حتى يرجع)[الترمذي]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من خرج من بيته ابتغاء العلم؛ وضعت الملائكة أجنحتها له رضا بما يصنع)[أخرجه ابن ماجه].
صور من رحلات الصحابة والتابعين ومن بعدهم
كانت الرحلة في طلب الحديث قائمة في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فقد ارتحل بعض الصحابة لطلب حديث واحد، سمعه أحدهم من رسول الله ثم انتقل من المدينة.
وفي سنن سعيد بن منصور عن أن ابن مسعود كان يقول: (لو أعلم أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الآخرة مني لأتيته أو: لتكلفت أن آتيه).
وبوب الخطيب في كتابه "الرحلة في طلب الحديث" قال: "ذكر من رحل في حديث واحد من الصحابة الأكرمين": وذكر عن جابر بن عبد الله، أنه سافر شهرا من المدينة إلى الشام ليسمع حديثا من عبد الله بن أنيس رضي الله عنهم أجمعين.
وذكر كذلك عن عطاء بن أبي رباح، قال: خرج أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر، ليسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، وغير عقبة.
وكثرة الرحلات عن التابعين لا تحصى: من ذلك ما يروى عن أبي العالية قال: كنا نسمع الرواية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة، فلم نرض حتى نركب إلى المدينة، فنسمعها من أفواههم. وهكذا عن الشعبي، وسعيد بن المسيب، وأبي قلابة، ومسروق.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: خرج أبي إلى طوس ماشيا وخرج إلى اليمن ماشيا.
وفي جامع أخلاق الراوي للخطيب عن أبي قلابة قال: أقمت بالمدينة ما لي بها حاجة إلا رجل عنده حديث واحد لأسمعه منه.
وعن أبان بن أبي عياش، قال: قال لي أبو معشر الكوفي: خرجت من الكوفة إليك "إلى البصرة" في حديث بلغني عنك. قال: فحدثته به.
وفي تاريخ بغداد يحكي عن مسلم بن الحجاج قال: "فقد ارتحل الإمام مسلم إلى العراق وسمع عبد الله بن مسلمة، وإلى خراسان فسمع ابن راهويه، وبالرى محمد بن مهران، وبالحجاز سعيد بن منصور وغيره، وبمصر عمرو بن سوادة وحرملة بن يحيى وآخرين وخلائق كثيرين، وتكررت زيارته إلى بغداد"[ تاريخ بغداد 13/ 101].
حث العلماء عليها
وقد ألف العلماء، ونوه السادة الأجلاء، والحفاظ النجباء في كلامهم ووصاياهم لطلبة العلم، في فضل الرحلة ولقاء الأشياخ ومنافع ذلك للطالب وللعلم وللأمة، وصنفوا في ذلك التصانيف المخصوصة، كما فعل الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه "الرحلة في طلب الحديث"، ومن لم يخص ذلك بمؤلف ذكره في ثنايا كتبه.. ومن طالع كتب التراجم والسير وجد من ذلك شيئا كثيرا، وجما غفيرا.
جاء في كتاب علوم الحديث، ص 223: "قيل للإمام أحمد: رجل يطلب العلم يلزم رجلا عنده علم كثير أو يرحل؟ قال: يرحل، يكتب عن علماء الأمصار، فيشام الناس، ويتعلم منهم .
وقيل له مرة: أيرحل الرجل في طلب العلم؟ فقال: بلى والله، لقد كان علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي ـ وهما من أهل الكوفة بالعراق ـ يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه ـ إلى المدينة المنورة ـ فيسمعانه منه".
وأنشد أبو الفضل العباس بن محمد الخراساني:
رحلت أطلب أصل العلم مجتهدا .. وزينة المرء في الدنيا الأحاديث
لا يطلب العـــلم إلا بــازل ذكــر .. .. وليس يبغضــه إلا المخـانيث
لا تعجبن بمـــال ســـوف تتـركه .. .. فإنمــا هـــذه الدنيــا مـواريث
وكلامهم في هذا كثير مشهور، وإنما يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
فوائد الرحلة
للرحلة في طلب العلم فوائد كثيرة ذكرها العلماء وعددوها.. ذكر طرفا منها صاحب كتاب "صفحات من صبر العلماء"، فقال رحمه الله:
"وقد كان الأوائل يعتبرون الرحلة في طلب العلم، أصلا لا يتخلف عنها إلا من أقعده ضعف الجسم، أو كثرة العيال، أو فقد الدريهمات، أو رعاية حق الوالدة أو الوالد".
ذلك لأنهم جعلوا “الرحلة” مناط الثقة بالعالم، فقالوا كلمتهم المشهورة: "من لم يرحل فلا ثقة بعلمه"، وكانوا يعتبرون الرحلة علامة على علم الرجل؛ وذلك لما لمسوه من فوائد الرحلة وآثارها النافعة، وتكوين المواهب الشخصية، وتنمية المدارك العلمية، وتوسعة الآفاق الفكرية، والتطاعم من العقول والمعارف وأهلها، فلذلك أقاموها مقام الحاجة الضرورية لمن سلك طريق العلم والتحصيل، واعتبروها شرطا لتوثيق العالم والثقة بعلمه. (صفحات من صبر العلماء: ص107).
ويقول الخطيب البغدادي: المقصود من الرحلة في الحديث أمران:
أحدهما تحصيل علو الإسناد، وقدم السماع، والثاني: لقاء الحفاظ، والمذاكرة لهم، والاستفادة منهم، فإذا كان الأمران موجودان في بلد الطالب ومعدومان في غيره، فلا فائدة في الرحلة، فالاقتصار على ما في البلد أولى"[انظر الرحلة في طلب الحديث، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي].
والذي يرحل لطلب العلم يستطيع أن يكثر من ملاقاة أهل العلم الذين عرفوا بغزارة العلم وتنوع المعارف، ويأخذ عنهم من علمهم ومعارفهم، ويتحلى بفضائلهم وأخلاقهم. فإنه إذا لقي أمثالهم، وجلس إليهم واحتك بهم؛ فيصل إليه من خيرهم، ويرسخ في نفسه مما ينطبع فيها من أخلاقهم وشمائلهم؛ فيكون هذا الرسوخ قويا.
فتشبهوا
وبعد.. فهكذا يطلب العلم، وهذا طريق طلبه الصحيح، والمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة، و"لا ينال العلم براحة الجسم، ومن طلب الراحة ترك الراحة".
وإنما ذكرنا من حالهم ما ذكرنا تشجيعا لطلبة العلم في زماننا، وحفزا لنفوسهم، وتحفيزا لهممهم فمن تمثل سير سلفنا الصالح، ونظر في معاناتهم في طلب العلم هانت عليه كل شدة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم .. .. إذا جمعتنا ياجرير المجامع
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم .. .. إن التشبه بالرجال فلاح