- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:ثقافة و فكر
في تعريفنا للقرآن بشكل مبسط نقول : " كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز بلفظه ومعناه، المتعبد بتلاوته".
إذن القرآن كلام الله أنزله بلسان العرب ولغتهم..[إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون]، وفي ذلك حكم جليلة للعلي الأعلى؛ وكون القرآن نزل بلسان العرب؛ نعمة لا تقع تحت حصر، إنما يهمنا هنا أن نقول من وجد في بيئة عربية، وتحدث بالعربية، فقد فتح الله له بابا من الخير كبيرا، وأعطاه هبة عظيمة، بأن جعله يتذوق القرآن، ويعيش مع آيات الله متى ما سمعها، قد يفوته معنى، وقد يلتبس عليه فهم ولكن هو في العموم مدرك لسياق الآيات، ومستوعب لجمال التراكيب، ومستحضر لمفهوم الخطاب الإلهي؛ وكفى بها نعمة.
هل جربت أن تقرأ القرآن الكريم فلا تفهم معانيه إلا بعد النظر إلى ترجمتها المسطورة في الحواشي؟
هل جربت أن تسمع آية في خطبة الجمعة فلا تفقه منها شيئا وتبقى مترقبا لترجمتها من الخطيب حتى يصلك كلام الله تعالى؟
هل تخيلت يوما أن تسمع القرآن الكريم فلا تفهم ولا تدرك ولا تعي مما تسمعه شيئا أبدا؟
هل جربت أن تستشعر نعمة اللغة التي تتقنها وتقرأ وتسمع آيات الله بها؟
إن هذه الأسئلة قد لا تكون قد استوقفتك من قبل، ولكن حين تسمع قصص المهتدين الجدد، تدرك كم أنت في نعمة بأن فتق الله لسانك بالعربية، وأوجدك متحدثا بها.
تقول الأستاذة/ إيناس بوبس:" مهما قلت ومهما فكرت لن تدرك ما أعنيه إلا حين تجرب أن تقرأ معاني القرآن مترجمة؛ فحينها فقط ستدرك كم يفقد غير الناطقين بالعربية من جماليات تتعلق بالبلاغة اللغوية من جهة والمعنوية المتعلقة بسرد التفاصيل من جهة أخرى، ذات يوم جمعني بمجموعة من غير الناطقين بالعربية حوار عن قصة سيدنا سليمان عليه السلام؛ وحينها كانت مفاجأتي الأولى؛ إذ تحدثنا عن قصته مع بلقيس وسار بنا الحديث إلى قوله تعالى:[قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها]، فقالت لي إحداهن إنها قرأت قوله تعالى: [وكشفت عن ساقيها] مترجما ونقلته إلى العربية كالآتي: "وجمعت بلقيس تنورتها "ثوبها الطويل.." فسألتها: هل تفهمين هذا المعنى بدون ترجمة؟ فأجابت بالنفي.
وشتان ما بين ما يصل إليك وأنت الناطق بالعربية المتشبع بعبقها وسحرها حين تتصور المشهد تصورا وتملأ فراغاته من خيالك الذاتي فتفهم منه أنها رفعت ثوبها خشية تبلله بالماء الذي ظنته حقيقيا تحتها؛ شتان ما بينك وبين من يحتاج إلى تبسيط الصورة وملء فجوات الخيال بالكلمات القريبة إلى الذهن حتى يغدو أقرب إلى نثر لا بلاغة فيه ولا خيال ولا يحمل بين جنباته أثيرا ممزوجا من خيالك والكلمات...
بالنسبة إلى متكلم بالعربية فإن قوله تعالى:[وكشفت عن ساقيها] كاف ليخبرنا ويدفعنا للتخيل أنها رفعت ثوبها قليلا فبدت ساقاها متوهمة وجود الماء، وينقلنا الخيال من الصورة الحسية إلى المراد منها وما توصل إليه من مقتضى؛ وهو الدلالة على ما عاشته بلقيس من رهبة وخوف وقد تيقنت أنها أمام ماء ستخوضه فبان لها بعد رهبتها أن ذلك صرح ممرد صنع لترجع عن كبريائها أمام عظمته، وذلك ما كان منها فعلا".
إنك تدرك الفرق بينك وبين العجمي؛ الذي يصله المعنى المترجم، بطريقة باردة، ليس فيها سحر العربية، ولا بيان القرآن، وجلال كلماته ووقعها في النفوس، وهو وقع قوي على نفوس من يفقهون العربية، وساعتها لن تتعجب أن صناديد الكفر بمكة لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن خروا سجدا من غير شعور منهم، ثم لما أفاقوا قالوا مقالة المتكبرين[ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون].
تقول الأكاديمية بالجامعات التركية الأستاذة إيناس : "جاءتني يوما إحدى الطالبات بادعاء قرأته في مكان ما مفاده أن في القرآن الكريم ما يخالف الحياء، وهي على يقين أن ذلك ليس بصواب لكنها لا تعرف كيف تدحضه بمنطق؛ ومضمون ما قرأته يدور حول قوله تعالى [وكواعب أترابا] فقد قرأت في الترجمة أن المقصود ها هنا الفتيات الصغيرات ذوات النهود!... وما إلى ذلك من وصف قرأته بلغتها الأم فاستغربت كيف يمكن أن يكون في القرآن الكريم كلام مثل هذا! وقفت مع نفسي للحظات وتساءلت: كيف أشرح لها أنني بوصفي عربية أرى هذا التعبير البلاغي المتوشح بالكناية في غاية التأدب والرقة والعذوبة في الوصف والتصوير! وكيف أخبرها أن كلمة (كواعب) ليست من الكلمات التي حافظت اللغة على استعمالها في الحياة اليومية؛ وذلك للحفاظ على رونقها بعيدا عن الإسفاف والابتذال، مثل كثير من كلمات اللغة التي بقيت مستعملة فصارت دالة على مدلول جامد ببعد واحد لا نكاد نستعمله في مجالسنا الراقية التي نتأدب فيها بتخير ألفاظنا ورفعها عن كونها من المحكي المتداول...
كيف أحكي لها عن الكلمات التي تدفع بالقارئ العربي حديث العهد بالتفسير والمعاني إلى البحث والقراءة والتمعن في المعنى المراد وأسباب تخير اللفظ دون غيره، والبلاغة المتحصلة منه ومما يخطه من صور ذهنية وفجوات وفراغات يملؤها القارئ بنفسه من خياله وتصوراته وتجاربه!
وكيف أخبرها أن القارئ المكتفي بالقراءة بعيدا عن المعاني التي لا تصله بدون عناء لن يعرف معنى هذه الكلمة ما لم يعد إلى كتب التفسير أو اللغة أساسا!
وكيف أمنحها شعوري بدلالة اللفظ وعذوبته وشدة عمقه في التعبير ووضوحه وجلائه!
وهذا كله إذا ما أردنا أن نقف عند حدود اللفظ فلا نتجاوزه إلى السياق العربي الذي تستعمل فيه الألفاظ... فالعرب مثلا حين تصف المرأة بقولها "الحائض" إنما تريد الدلالة على مرحلة عمرية معينة؛ هي البلوغ.
وكذلك الأمر إذا ما جئنا إلى كلمة "كواعب" التي لا يراد بها محض الوصف البدني لأجزاء من جسد المرأة كما يمكن أن يصل إلى من يتعامل مع معاني القرآن الكريم مترجمة ترجمة حرفية، بل المراد منها هو الدلالة على مرحلة عمرية من جهة، وصفة نفسية في المرأة من جهة أخرى، فهي تدل في سياق الآيات في سورة النبأ على الفتاة طافحة الجمال المتدفقة بالشباب التي تهفو إليها أفئدة الرجال!"
فما أروع كلام ربنا، وما أرقى العبارة فيه، وما أسعد العربي بنزول القرآن بلسانه، فليتنا نستشعر هذه النعمة، ونشكرها ببيان كتاب ربنا للبشرية لننقلها من شقائها إلى سعادة الدارين.
ألسنا مسؤولين عن تقريبه وتبيانه للسائلين كما جاء بجلال وجمال يترك العابر والسابر لآياته حيران دهشة ولذة وجمالا!!