المعاصي تمحق بركة العمر

0 160

اجتمعت كلمة أهل العلم وأرباب السلوك على أن المعاصي والذنوب لها أثر عجيب على قلب العبد وجسده، وعلى دينه ودنياه، وعقله وبدنه، وعمره وعمله، وأن أثرها في القلب أعظم من أثر المرض على البدن وعافيته.

وذكر أهل الفضل أن المعاصي تمحق البركة من كل ما حولها، ومما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه "الداء والدواء" فصل في أن المعاصي تمحق البركة، فقال رحمه الله ومن عقوباتها: "أنها تمحق بركة العمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة.. وبالجملة أنها تمحق بركة الدين والدنيا".

ونحن هنا نشير مجرد إشارة عابرة حول محق المعصية لبركة العمر، حتى لا تكاد تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله.

ولابد في البداية أن يعلم العبد أن عمره هو رأس ماله الذي يتاجر فيه مع ربه، وهو كنزه الذي يشتري به جنة الخلد ورضا الرب، فإذا ضاع هذا العمر في غير ما وضع له كانت هي الخسارة التي لا تعوض ولا تضاهيها خسارة أصلا.. وعند السؤال يظهر الربح من الخسران.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم)[صحيح الترمذي، والترغيب والترهيب]..

فأصل العمر أنه وعاء العمل، أعطاه الله للإنسان ليعمل فيه ما يربح به على الله عند لقاه، فقيمة ما عاشه الإنسان هو قيمة ما استعمله من العمر في طاعة ربه، فليس طول العمر بكثرة الشهور والأعوام، وإنما بقدر الوقت الذي أطيع الله فيه.

صور محق بركة العمر
ومن هنا يبدأ فهم كيف تمحق المعصية بركة العمر.. فإن ذلك يكون من عدة جهات:
الأولى: أن المعصية تشغل وقتا كان الأصل فيه أن يستعمل في الطاعة، فمن قضى ساعة في معصية، فقد فقد من عمره ساعة، ونقص عمره النافع بقدرها، فالمعصية تفوت بقدر وقتها طاعات، فإذا جاء العبد يوم القيامة ليحاسب على هذا الوقت وجده وقتا ضائعا.

ثانيا: المعاصي تدعو لأمثالها:
قال بعض السلف: "إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها".. ذلك أن المعاصي يولد بعضها بعضا، ويدعو بعضها إلى بعض، حتى يألفها القلب، فتصير له عادة ثابتة، وهيئة راسخة، وصفة لازمة، فيعز على العبد مفارقتها والخروج منها، ولو أنه عطلها وغاب عنها وأقبل على الطاعة؛ لضاقت عليه نفسه وضاق صدره، إلى أن يعاودها، حتى إن كثيرا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها، إلا ما يجد من ألم فقدها.
فتتولد عن المعصية معصية، ومع الذنب ذنب، وهذا معناه ضياع عمر أطول وفوات زمن أكثر، وخسران أوقات أكبر في غير طاعة.

ثالثا: أن المعصية تضعف إرادة التوبة
فإن الذنوب إذا تكاثرت على قلب صاحبها، غلفته بالران والصدأ، وهو قوله تعالى: {كلا ۖ بل ۜ ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}[المطففين:14]، قال الحسن: "هو الذنب على الذنب، حتى يعمي القلب".
وتقوي فيه إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا، إلى أن تنسلخ من قلبه تلك الإرادة بالكلية، فلو مات نصفه لما تاب إلى الله، فإن تكلم بالتوبة فهي توبة الكذابين، وإن استغفر فباللسان، وقلبه معقود على المعصية، مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك. وبقدر وقوعه في المعصية وإصراره عليها يكون ضعف القلب عن إرادة التوبة.
وثمرة عدم التوبة هو البقاء على مقارفة الذنوب، والوقوع في المعاصي، وضياع العمر بعيدا عن الله تعالى وعن طاعته.

رابعا: المعصية تضعف القلب والبدن
ومن المعلوم أن السير إلى الله تعالى إنما هو بالقلب قبل البدن، فإن قوي القلب ساق البدن إلى العمل، والمعاصي تضعف القلب وتصرفه عن إرادة الطاعة، وتضعف البدن عن تحملها والقيام بها، حتى إن أحدهم ليتهيأ له أسباب الخير ويفتح له أبواب العمل لكن قلبه لا يدعوه إليها، وجسده لا يقوى عليها، ولا يجد الداعي في نفسه إليها.. فربما سهر أحدهم الليل كله يلعب ويلهو ويعصي، فلا يخطر بباله أن يقوم ليصلي لله ركعتين، أو يقرأ آيتين، أو حتى يستغفر ربه بالأسحار، بل كثير منهم إذا قرب الفجر قام فنام ولا يصلي.

خامسا: المعاصي مرتبطة بالشيطان
فكما أن الطاعة متصلة بالرحمن، وهي بتوفيقه، وهو يحبها ويأمر بها، وملائكته تدعو إليها، فهي مباركة ببركة الله تعالى فإن كل ما اتصل به سبحانه فهو مبارك..
فكذلك المعصية متصلة بالشيطان، وهو يدعو إليها، ويأمر بها {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء}[البقرة:268]، {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ۚ ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر}[النور:21]، {إنما يأمركم بٱلسوٓء وٱلفحشآء وأن تقولوا على ٱلله ما لا تعلمون}[البقرة:169]، وهو يدعو أولياءه إليها، ويؤزهم أزا عليها: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}[مريم:83]، فالمعصية متعلقة بالشيطان، وكل شيء تعلق بالشيطان فهو ملعون ممحوق البركة.

سادسا: المعاصي تأكل ثواب الطاعة
ذلك أن العبد يعمل الطاعات زمنا طويلا، ويحرص أن يحقق فيها كل أسباب القبول وشروط الرضا، ويقبلها الله سبحانه منه، ثم يأتي يوم القيامة ويرى ثوابها في الميزان، ثم لا يلبث أن تأتي معاصي عملها في الدنيا فيها حقوق للعباد، وظلم للناس، وأكل أموالهم بالباطل، وسفك دماء، أو غيبة أو وقوع في عرض، أو غيرها.. فيتسلط أصحابها على ثواب الحسنات حتى يذهبوا به كله، فيضيعوا جهد العمر الذي بذل فيها، وهذه أعظم لعنة للمعصية ومحقها لبركة العمر والعمل، حتى يصبح الإنسان وكأنه لم يعمل خيرا قط، ولم يبذل عمرا في طاعة أبدا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار).

وفي النهاية:
ينبغي على العبد أن يعرف قدر العمر، وقيمة الوقت، ومكانة الزمان، فلا يضيع لحظة في غير طاعة وقربة ـ ما استطاع إلى ذلك سبيلا ـ، وعليه أيضا أن يعرف خطورة المعاصي، ومفسدة الذنوب، وضررها عليه في الدنيا والدين، فيهرب منها، ويفر عنها، فإن غلبه هوى أو غفلة أو شيطان، فليسارع بالتوبة والرجوع إلى الله وإلى طاعته، صيانة لعمره، وحفظا لعمله، وطلبا لنجاته يوم يقوم الناس لرب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة