الله لطيف بعباده

0 90

 

من القواعد المقررة عند أهل العلم أن شرف العلم بشرف المعلوم، ولا علم أشرف من العلم بالله عز وجل وأسمائه الحسنى وصفاته العليا. قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": "فالعلم بالأسماء والصفات، والتعبد بها هو قطب السعادة، ورحى الفلاح والنجاح، من رام السعادة وابتغاها فليأخذ نفسه بأسماء الله وصفاته، فبها الأنس كله، والأمن كله، وما راحة القلب وسعادته إلا بها، لأنها تتعلق بمن طب القلوب بيديه، وسعادتها بالوصول إليه".. وأسماء الله تعالى وصفاته توقيفية مصدرها القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، لا مجال للعقل والاجتهاد فيها، وأهل السنة يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه ـ من أسماء وصفات ـ في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فإنه سبحانه الكامل في أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فلا مثيل له في ربوبيته، ولا مثيل له في إلهيته، ولا مثيل له في أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى:11). قال القرطبي: "والذي يعتقد في هذا الباب أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعلي صفاته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبه به {ليس كمثله شيء}". وقال السعدي: "{ليس كمثله شيء} أي: ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لأن أسماءه كلها حسنى، وصفاته صفات كمال وعظمة.. وهذه الآية ونحوها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة من إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات. وفيها رد على المشبهة في قوله: {ليس كمثله شيء} وعلى المعطلة في قوله: {وهو السميع البصير}". وقال أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني في كتابه "اعتقاد أئمة أهل الحديث": "ويعتقدون ـ يعني: أهل السنة والجماعة ـ أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى، وموصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه، ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم". وقال ابن تيمية: "ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات.. والقول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله".
ومن المعلوم والمقرر عند أهل السنة أن أسماء الله عز وجل يشتق منها صفات، أما الصفات فلا يشتق منها أسماء، فيشتق من أسماء الله: الرحيم، والقادر، والعظيم، واللطيف، صفات: الرحمة، والقدرة، والعظمة، واللطف، ولكن لا نشتق من الصفات الأسماء، فباب الصفات أوسع من باب الأسماء، فمن صفاته سبحانه: الإتيان، والمجيء، والنزول، وليس لنا أن نشتق من هذه الصفات أسماء لله تعالى. قال الشيخ ابن عثيمين في "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى": "من صفات الله تعالى: المجيء، والإتيان، والأخذ، والإمساك، والبطش، إلى غير ذلك من الصفات التي لا تحصى.. فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول: إن من أسمائه الجائي، والآتي، والآخذ، والممسك، والباطش، والمريد، والنازل، ونحو ذلك، وإن كنا نخبر بذلك عنه ونصفه به". وكل اسم من أسماء الله تعالى متضمن لصفة من صفاته سبحانه، ولكن ليس كل صفة من صفات الله متضمنة لاسم من أسماء الله تعالى. قال الشيخ ابن عثيمين: "كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة متضمنة لاسم، وبهذا نعرف أن الصفات أوسع من الأسماء، إذ قد يوصف الله عز وجل بصفة، ولكن لا يشتق منها اسم لله، لكن كلما وجدت اسما فإنه متضمن لصفة"..

و"اللطف" صفة ثابتة لله عز وجل بالقرآن الكريم والسنة النبوية، واللطيف من أسماء الله عز وجل.. ولطف الله تعالى بعباده له صور ومعان كثيرة وعظيمة، منها: الرفق، والبر، والإحسان في خفاء وستر، وأن الله يعلم دقائق وخفايا الأمور، وما في الضمائر والصدور، وأنه سبحانه يحسن إلى عباده من حيث لا يحتسبون ولا يعلمون. قال ابن منظور في "لسان العرب": اللطف: البر والتكرمة والتحفي. اللطيف: اسم من أسمائه، ومعناه والله أعلم: الرفيق بعباده". وقال الأزهري في "تهذيب اللغة": "معنى (اللطيف) الرفيق بعباده، وقيل: اللطيف الموصل الشيء باللين والرفق". وقال الزجاج في "تفسير أسماء الله الحسنى ": "اللطيف: وهو في وصف الله يفيد أنه المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون، وهذا مثل قول الله تعالى: {ويرزقه من حيث لا يحتسب}(الطلاق:3)، فأما اللطف الذي هو قلة الأجزاء فهو مما لا يجوز عليه سبحانه". وقال السعدي: "اللطيف: الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن والأمور الدقيقة، اللطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها، فهو بمعنى الخبير وبمعنى الرؤوف"..

وصفة الله عز وجل "اللطف" ثابتة لله تعالى، وقد ورد اسم الله عز وجل "اللطيف" في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن ذلك:
1 ـ قال الله تعالى: {وهو اللطيف الخبير}(الأنعام: 103). قال السعدي: "الذي لطف علمه وخبرته، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن. ومن لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها، ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب، حتى أنه يقدر عليه الأمور، التي يكرهها العبد، ويتألم منها، ويدعو الله أن يزيلها، لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها، فسبحان اللطيف لما يشاء، الرحيم بالمؤمنين".
2 ـ قال تعالى: {الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز}(الشورى:19). قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم، لا ينسى أحدا منهم، سواء في رزقه البر والفاجر". وقال البغوي: "قوله عز وجل: {الله لطيف بعباده} أي: حفي بهم قال ابن عباس رضي الله عنهما: حفي بهم. قال عكرمة: بار بهم. قال السدي: رفيق. قال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر، حيث لم يهلكهم جوعا بمعاصيهم".
3 ـ وقال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}(الملك:14). قال السعدي: "{وهو اللطيف الخبير} الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا والخفايا والغيوب، وهو الذي {يعلم السر وأخفى}(طه:7). ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة". وقال ابن عاشور: "و(اللطيف): العالم خبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة".
4 ـ عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في تتبعها للنبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من عندها خفية لزيارة البقيع، وفيه قال صلى الله عليه وسلم لها: (ما لك يا عائش (خاطبها بحذف التاء تلطفا وتوددا)؟ حشيا رابية؟ قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبريني، أو ليخبرني اللطيف الخبير) رواه مسلم.
(حشيا) التهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه بسرعة والمحتد في كلامه من ارتفاع النفس وتواتره، (رابية) أي: مرتفعة البطن! فلأي سبب اضطرب جسمك وانقطع نفسك؟ فأخبرته أنه لم يوجد منها شيء يوجب ذلك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لتخبريني) عن سبب اضطرابك وانقطاع نفسك، (أو ليخبرني) عن سبب ذلك الله (اللطيف) الرفيق بعباده (الخبير) العليم بأحوالهم ظاهرها وباطنها.. قال الطيبي في"الكاشف عن حقائق السنن": "(اللطيف).. قيل: معناه العليم بخفيات الأمور ودقائقها، وما لطف منها.. قال الشيخ أبو القاسم: (اللطيف) العليم بدقائق الأمور ومشكلاتها، وهذا في وصفه واجب، واللطيف المحسن الموصل للمنافع برفق، وهذا في نعته مستحق، وهو من صفات فعله. وقوله تعالي: {الله لطيف بعباده يرزق من يشاء}(الشورى:19) يحتمل المعنيين جميعا، أن يكون عالما بهم وبمواضع حوائجهم، يرزق من يشاء ما يشاء كما يشاء، ولطيف بهم يحسن إليهم ويتفضل عليهم، ويرفق بهم".
وقال الصنعاني في "التحبير لإيضاح معاني التيسير": "قوله: (اللطيف): إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها ولطف، ثم سلك إلى المنتفع بها سبيل الرفق دون العنف. فإذا اجتمع الرفق في الفعل والرفق في الإدراك تم معنى اللطف، ولا يتصور كمال ذلك في العلم والفعل إلا لله تعالى. فأما إحاطته بالدقائق والخفايا فلا يمكن تفصيل ذلك، بل الخفي مكشوف في علمه كالجلي (الظاهر الواضح) من غير فرق. وأما رفقه في الأفعال ولطفه فيها، فلا يدخل أيضا تحت الحصر، إذ لا يعرف اللطف في الفعل إلا من عرف تفاصيل أفعاله وعرف دقائق الرفق فيها.. وشرح ذلك لا تتسع له المجلدات، ولنمثل ببعض ما عرفناه من لطفه: فمن لطفه: خلقه الجنين في بطن أمه في ظلمات ثلاث، وحفظه فيها، وتغذيته بواسطة السرة إلى أن ينفصل فينتقل إلى التناول بالفم، ثم إلهامه إياه عند الانفصال التقامه الثدي، وامتصاصه ولو في ظلام الليل، من غير تعليم ومشاهدة، بل تتفقأ البيضة عن الفرخ وقد ألهمه التقاط الحب في الحال، ثم تأخير خلق الأسنان عن أول الخلقة للاستغناء باللبن عن السن، بل لو خلقت عند ولادته لأضر بحلمة الثدي، ثم إتيانها بعد ذلك عند الحاجة إلى طحن الطعام، ثم تقسيم الأسنان إلى عريضة، وإلى أنياب للكسر، وإلى ثنايا حادة الأطراف للقطع، ثم استعمال اللسان الذي الغرض الأظهر منه النطق في رد الطعام إلى المطحن كالمجرفة.. تيسير لقمة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها، وقد تعاون على إصلاحها خلق لا يحصى عددهم، مصلح الأرض، وزارعها، وساقيها، وحاصدها، ومنقيها، وطاحنها وعاجنها وخابزها إلى غير ذلك، لكان لا يستوفي شرحه. وعلى الجملة: فهو من حيث دبر الأمور حكيم، ومن حيث أوجدها جواد، ومن حيث زينها مصور، ومن حيث وضع كل شيء موضعه عدل.. ولا يعرف حقائق هذه الأسماء من لم يعرف حقيقة هذه الأفعال.. ومن لطفه أنه أعطى عباده فوق الكفاية وكلفهم دون الطاقة، ومن لطفه أن يسر لهم الوصول إلى سعادة الأبد بسعي خفيف بها مدة قصيرة وهو العمر، فإنه لا نسبة له إلى الأبد، ومن سرح طرف فكره فيما لطف ربه له به عرف عجائب لطفه".
وقال ابن القيم في "قصيدته النونية":
وهو اللطيف بعبده ولعبده        واللطف في أوصافه نوعان
إدراك أسرار الأمور بخبرة     واللطف عند مواقع الإحسان
فيريك عزته ويبدي لطفه        والعبد في الغفلات عن ذا الشان


وقال في "شفاء العليل": "واسمه اللطيف يتضمن علمه بالأشياء الدقيقة، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية".

"اللطيف" اسم من أسماء الله عز وجل، و"اللطف" صفة من صفاته سبحانه.. ولطف الله تعالى عام وخاص، فالعام يشمل جميع خلقه، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فهو سبحانه يسوق إليهم أرزاقهم، وما يحتاجونه في حياتهم، ويشفيهم ويعافيهم، فإنه سبحانه ربهم خالقهم لطيف بهم.. ولطف خاص بأهل الإيمان يحيطهم به، ولا يقدر لهم إلا ما هو خير لهم ولو كرهوه، لأنه عليم بما يصلحهم، خبير بما ينفعهم.. فإذا أصابهم بما يحبون، لطف بهم فرزقهم الشكر عليه ليتضاعف أجرهم، ويبارك لهم فيما رزقهم، وإن أصابهم بما يكرهون لطف بهم فأنزل عليهم الصبر والرضا ليوفوا أجرهم بغير حساب، فما من قدر ينزل على العبد إلا وفيه لطف من الله تعالى، علمه العبد أو لم يعلمه، فعلى قدر تقبل العبد ورضاه بقدر الله عز وجل يكون بعد ذلك توالي نعم لله تعالى بلطفه على عبده، وقد قال الله تعالى: {الله لطيف بعباده}(الشورى:19). قال السعدي: ".. ولطف بأوليائه وأصفيائه، فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته وكرامته، وحفظهم من كل سبب ووسيلة توصل إلى سخطه، من طرق يشعرون بها، ومن طرق لا يشعرون بها، وقدر عليهم أمورا يكرهونها لينيلهم ما يحبون، فلطف بهم في أنفسهم فأجراهم على عوائده الجميلة، وصنائعه الكريمة، ولطف لهم في أمور خارجة عنهم لهم فيها كل خير وصلاح ونجاح، فاللطيف متقارب لمعاني الخبير، الرؤوف، الكريم"..

لو علم العباد عن ألطاف ربهم سبحانه وتعالى بهم، وبره وصنعه لهم، من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، لامتلأت قلوبهم حبا له، وشوقا إليه، وشكرا له.. وحين يتأمل المؤمن اتصاف الله تعالى باللطف، فإنه يوقن بدقة علمه سبحانه، وإحاطته بكل شيء وجميع خلقه، وعظم وسعة رحمته ولطفه بعباده، فيدعوه ذلك لمحاسبة نفسه على كل قول وفعل، ويحمد الله ويشكره على نعمه الظاهرة والباطنة، ولطفه به فيما علم وما لم يعلم، ويتحلى بالرفق والرحمة مع الخلق.. قال الصنعاني: "يتخلق العبد من هذا الوصف اللطف بالعباد، والرفق بهم، والتلطف بهم في الدعوة إلى الله تعالى والهداية إلى النجاة، من غير عنف ولا خصام ولا إقناط ولا ترخيص". وقال الطيبي: "وحظ العبد منه: أن يلطف بعباده، ويرفق بهم في الدعاء إلي الله تعالي، والإرشاد إلى طريقة الحق، ويتيقن أنه تعالي عالم بمكنونات الضمائر علمه بجليات الظواهر، فلا يضمر (يخفي) ما لا يحسن إظهاره".. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة