المثقف صاحب الرسالة في زمن التشابه

0 0

في زمن يزداد فيه الضجيج وتتشابه فيه الأصوات، يظل سؤال المثقف سؤالا مفتوحا على الاحتمال، مربكا في دلالته، متشظيا في واقعه، حتى ليكاد القارئ الحصيف يسأل: من هو المثقف حقا؟ أهو من يملأ المنابر صخبا؟ أم من يملأ الصدور فكرا؟ وهل يكون المرء مثقفا بكثرة إنتاجه، أم بصدق مواقفه، وعمق رؤيته، والتزامه برسالة تجاوز الذات إلى الأمة والتاريخ؟

لقد تعاقبت التعريفات وتزاحمت الأقلام، وكل يصوغ حده للمثقف وفق زاويته الفكرية أو خلفيته الإيديولوجية، ولعل من أبرز من حاولوا تفكيك هذا المفهوم المفكر المغربي محمد عابد الجابري "الذي رأى أن غموض المصطلح في الثقافة العربية راجع إلى افتقاده لمرجعية محددة"، فصار "مصطلحا سيارا"، يكيف بأشكال متعددة، بحسب سياقه في خارطة التصنيف. ولعلنا نسير على هديهم في بناء تصورنا للمثقف بأنه من لا يكتفي بممارسة النشاط الفكري النابع من الوعي والفهم وسعة الأفق، بل هو صاحب رسالة، يبحث عن كشف الحقيقة، ويكون شجاعا في الدفاع عنها، ويحدد وضعه بالدور الذي يؤديه في المجتمع كصاحب رأي وقضية، همه التغيير، يشغله سؤال التقدم، وبهذا المعنى، يشمل كل من يشتغل بالثقافة إبداعا وتوزيعا وتنشيطا وهما، لأن الثقافة ليست حكرا على فئة، بل هي عالم الرموز، بكل ما فيه من فن ودين وعلم وموقف.

وإذا كان الجابري وغيره قد رسموا حدود الدور، فإن الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي (ت: 1937) عمق الغاية، حين تحدث عن "المثقف العضوي"، وهو ذاك الذي لا ينفصل عن واقعه الاجتماعي، بل يتماهى معه، ينهض من بين الناس، ويعبر عن همومهم، ويمتلك وعيا مشتبكا مع القضايا الكبرى للأمة، ليس موظفا للثقافة في بلاط النخبة، بل شاهد حق في ساحة الجماهير، وغرامشي هنا يعيد تعريف وظيفة المثقف: من الترف اللفظي إلى التغيير الاجتماعي، وقد فرق بين "المثقف التقليدي"، المرتبط بالمؤسسات، و"المثقف العضوي" الذي يتشكل من رحم معاناة الناس، ويحمل قضاياهم، ويعيد تنظيم الوعي الجمعي.

وإذا كان غرامشي قد أعاد مركزية الارتباط بالواقع، فإن ما نحن أحوج إليه اليوم هو "المثقف الرسالي"، الذي لا يكتفي بوصف الواقع أو الانخراط فيه، بل يسعى لهدايته وتوجيهه، وبنائه، ويرى في الكلمة أمانة لا متعة، وفي الفكر عبادة لا شهرة، يكتب للحق لا للضوء، ويقف عند موضع الجرح لا حيث الأضواء تتلألأ، المثقف الرسالي هو الذي يستمد مشروعيته من اتصاله بالقيم الكبرى، وهموم أمته، وقضاياها المصيرية، وارتباطه الوثيق بمصادر الوحي ومقاصد الإصلاح، فلا يغتر بزخرف المصطلحات، ولا تستهويه غواية المنصات، ولا يلهث وراء الأوهام المتضخمة في صالونات الهذر اللفظي، ولا يقبل أن يكون مطية للاستبداد، ولا قلما رخيصا للاستخدام يضرب به متى ما احتيج إليه.

لكن أين هذا المثقف اليوم؟ هل ما زال حاضرا؟ أم خفت صوته تحت ركام المشهد الاستعراضي؟

لقد عرفنا زمنا احتكرت فيه المنابر، وتوزعت الأدوار على الوجوه ذاتها، تراها في الصحيفة، وفي الملاحق، وفي الندوات، وفي مشاهد التطبيل لعمل رديء، يقف وراءه "اسم معروف".
أما المبدعون الحقيقيون فكانوا يقبعون في الظلال، لا نصير لهم سوى الحلم، ولا ناشر لهم سوى المظاريف، ولا ضوء يسلط عليهم، كأنما الثقافة لا تعترف إلا بمن باركته مؤسسة النفوذ
.

لهذا؛ كان الفضاء الرقمي بمثابة انتفاضة عادلة، كسرت الهيمنة، وخلخلت العروش المتخشبة، صار بإمكان الكاتب أن ينشر صوته دون منة، أن يكون الناشر والقارئ والناقد في آن معا، وهذا من كرم الله، أن يخرجك إلى الضوء دون إذن من حارس البوابة. لكن هذه العدالة الوليدة، لم تمنع من انبعاث شكل جديد من المثقف الرخيص، الذي يطارد اللحظة، ويبيع صوته لمن يدفع بالثناء، تراه يصطف في صفحات مريبة، يهز رأسه لحديث تافه، ويشطب على من خالفه، لا لشيء سوى حب الظهور، يعرف تفاهة ما يسمع، ويعي طيش ما يقال، لكنه يصمت، لأن الرغبة في التلميع أقوى من صوت الضمير، هكذا يصنع الزيف، ويختزل المثقف في صورة ناصعة جوفاء، تذوب أمام أول سؤال حقيقي.

ولعل أخطر ما في المشهد، هو المثقف الثائر بلا قضية، كما وصفه د. نايف بن نهار: "يريد أن يجدد، ولا يدري ماذا يجدد، يريد أن ينتقد ولا يعرف ماذا ينتقد، يريد أن يتمرد ولا يدري على ماذا يتمرد، رغبته أكبر من معرفته". هذا النمط لا يضل وحده، بل يضل، إذ يتبعه شباب يظنون وراء صوته فكرا، وما ثم إلا صدى جوف لا طحين له.

وأكتب هذا، لا من برج عاجي، بل من تجربة، فقد حضرت مجالس لمثقفين من بداية الشباب، وتكررت مشاهد الاستعلاء، والنرجسية، والسخرية من الإيمان، ومن البسطاء، ومن كل ما لا يشبه لغتهم المختارة بعناية لتوحي بأنهم "سادة الوعي"، كانت الصورة تتكرر في كل زمان ومكان: حديث في كل شيء، قهقهات، ألفاظ مصطنعة، واحتقار صامت لمن لا يشبههم.

ولم تكن التجربة ذاتية فقط، بل موثقة بما قيل لي يوما من أحد النقاد: "لو كتبت كتبا تملأ قبة الصخرة، ما اعترفوا بك، لأنك لم تنشأ على أعينهم". هذا هو لب المشكلة: الثقافة حكر في أذهان بعضهم، لا تعطى إلا لمن تربى على يد الحارس القديم.

فمن هو المثقف الحقيقي إذن؟ هو من يقف في المسافة الفاصلة بين الرؤية والرسالة، لا يغتر بالصوت، ولا يغيب عن الواقع، لا يسكر بالثناء، ولا يخاف من التهميش، يكتب ليضيء، لا ليرى، والمثقف الذي نبحث عنه اليوم، ليس ذلك الذي يردد: "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم"، بل الذي يسأل: كيف أضيء في هذا الظلام؟.

إن الثقافة ليست مهرجانا، والمثقف ليس عارض أزياء، بل ضمير حي، ولسان صدق، ورؤية تستشرف موضع الخطو قبل أن تبرح القدم، وقلم ينزف لا ليصفق له، بل ليوقظ، ويحرك، ويضيء في مواضع العتمة، حيث الكلمات تبرأ من الزيف، وتولد من رحم الألم مصابيح للوعي والنهوض.

ختاما، ليس السؤال: أين المثقف؟ بل: أين نحن من مسؤوليته؟ وهل نملك من الشجاعة ما يكفي لنفرز الصادق من المزيف؟

ذاك هو التحدي الأكبر في عصر تشابهت فيه الأصوات وتعددت فيه الأقنعة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة