- اسم الكاتب:عبد العزيز البدري
- التصنيف:من ذاكرة التاريخ
تبوأ الشيخ عبد القادر بن الشيخ محيي الدين الحسني أكبر مركز بين العلماء في المغرب ، فقد كان - رحمه الله - فقيهـا ذا عبقرية إسلامية فذة .
وفي السنة الثانية من احتلال الكفار المستعمرين الفرنسيين لأرض الجزائر سنة 1348هـ ، اجتمع علماء الجزائر وأصحاب الكلمة فيها ، وأبدوا الرأي في مسجد مدينة مسكر ، وبايعوا الشيخ عبد القادر على الإمارة والجهاد لتحرير أرض الجزائر من الغاصبين المعتدين ، وإقامة الشرع الإسلامي الحنيف في البلاد ، فأنشأ - رحمه الله - حكومة إسلامية برئاسته ، لتحقيق هذه الغاية .
وحين علم الكافر المستعمر الفرنسي ، بظهور الشيخ عبد القادر وحكومته الإسلامية ،تملكه الفزع والهلع ، فشن حربـا هجومية مسعورة للقضاء على كل استعداد عسكري لها ، ولإبادة المجاهدين وحكومتهم ، إلا أن الشيخ عبد القادر رد هذا الهجوم بشكل عنيف جدا ، مما أرغم على بقائه ، معتصمـا في داخل الحصون والقلاع .
ولما عجز الجنرال دي ميشال ولم يتمكن من فك الحصار المضروب حول رجاله في وهران وستغانم ، وكادت الجيوش المجاهدة ، تسحق القوات الاستعمارية داخل الحصون ، لو لم يمل القائد الفرنسي إلى المراوغة ، فأرسل إلى الأمير الشيخ عبد القادر ، يطلب منه التماس الصلح من فرنسا ودس بين سطور رسالته عبارات التهديد والتخويف ، بقوة فرنسا الهائلة التي تعد أكبر قوة في العالم .
ولكن الشيخ عبد القادر أجابه إجابة القائد المؤمن ، الواثق بنصر الله تعالى ، الفاهم للإسلام ، العالم بأحكام الشرع المتعلقة بالجهاد ومقاتلة الكفار .
فقال - رحمه الله تعالى - : " إن ديننا يمنعنا من طلب الصلح ابتداء ، ويسمح لنا بقبوله إذا عرض علينا ، وإن المفاوضة التي تطلبونها يجب أن تكون مبنية على شروط محترمة منا ومنكم " . والشيخ بقوله هذا يشير إلى قوله تعالى : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله )( الأنفال: 61 ) .
ثم استطرد الأمير الشيخ قائلا في جوابه : " كيف تفاخرون بقوة فرنسا ولا تقدرون القوة الإسلامية ، مع أن القرون الماضية أعدل شاهد على قوة المسلمين وانتصاراتهم على أعدائهم ، ونحن وإن كنا ضعفاء على زعمكم ، فقوتنا بالله الذي لا إله إلا هو لا شريك له ، ولا ندعي بأن الظفر مكتوب لنا دائمـا ، بل نعلم أن الحرب سجال يوم لنا ويوم علينا ، غير أن الموت سر لنا وليس لنا ثقة إلا بالله وحده ولا شريك له ، لا بعدد ولا بعدد ، وإن دوي الرصاص وصهيل الخيل في الحرب لآذاننا خير من الصوت الرخيم " .
ثم يتحدى الجنرال دي ميشال وقواته قائلا : " متى خرجتم من وهران مسافة يوم أو يومين يظهر للعيان من يستحق الفخر بنا " .
تلك إجابة العالم المجاهد ، فكان جوابه كالصاعقة التي أذهلت هذا القائد الكافر الغر النزق .
إن هذا العالم الرجل ، ليس من أولئك الرؤساء الذين تخور أعصابهم للتهديد والوعيد ، كما لم يكن من أولئك الذين يتربعون على كراسي الحكم شهوة للحكم ، فإذا هددوا وأنذروا ركعوا وخروا ساجدين ، متمرغين على الأعتاب ، بل على الأقدام ، في سبيل المحافظة على تلك الكراسي الزائفة والزائلة .
عند ذاك أعلن الشيخ الجهاد ، فاستجاب لندائه الأبرار من جند الرحمن وأنصار الإسلام وحزب الله ، على جند الكفر وأنصار الاستعمار وحزب الشيطان ، فدام جهاده المبارك هذا سبعة عشر عامـا ، وكان هذا الإعلان الخالد أول شرارة لإشعال نار الحرب المقدسة ضد الباغين المعتدين ،فدخل المعارك الحربية ، وكانت سجالا بين الفئتين ، يوم لنا ويوم علينا ، ثم استمر العلماء المجاهدون من أهل الجزائر ، كلما استشهد عالم قام آخر ، وأخذ العلماء يتولون القيادة في الجهاد .