معركة شقحب

0 1251

كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديدا يملأ صدور الناس ويوهن من قواهم، فكلما سمع الناس قصدهم إلى بلد فروا من مواجهتهم. وقد سهل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.
وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر كما هو معلوم، ويبدو أن أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسؤولين في مصر، فعمل العلماء وأولوا الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة.
ففي شهر رجب من سنة 702 هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتد خوفهم جدا كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وقرئ [صحيح] البخاري، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء فيعمدون إلى قراءته في المسجد الجامع.
وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف.
قال ابن كثير:
(وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة - أي قلعة دمشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان من مصر لمناجزة التتار المخذولين.. وفي ثامن عشر من شعبان قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال ركن الدين بيبرس الجاشنكير وحسام الدين لاجين وسيف الدين كراي).
ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير السلاح وأيبك الخزندار. فقويت القلوب في دمشق، واطمأن كثير من الخلق، ولكن الناس في الشمال سيطر عليهم الذعر، واستبد بهم الفزع فنزح عدد عظيم منهم من بلاد حلب وحماة وحمص.. ثم خافوا أن يدهمهم التتار فنزلوا إلى المرج.
ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فسادا، وقلق الناس قلقا عظيما لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفا شديدا، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبطون يوهنون عزائم المقاتلين ويقولون: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لقلة المسلمين وكثرة التتار. وزينوا للناس التراجع والتأخر عنهم مرحلة مرحلة. ولكن تأثير العلماء ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية كان يتصدى لهؤلاء المرجفين المثبطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال.
واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدو وشجعوا رعاياهم، ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم وجلس القضاة بالجامع يحلفون جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وتوقدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية أعظم التأثير في ذلك الموقف، فقد عمل على تهدئة النفوس، حتى كان الاستقرار الداخلي عند الناس والشعور بالأمن ورباطة الجأش. ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص.. ثم توجه ابن تيمية بعد ذلك إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيفة، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.
**ابن تيمية يحرض المؤمنين على القتال***
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى : (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله).
وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفت في عضد المحاربين للتتار من نحو قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟
فرد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشبهة قائلا: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية رضي الله عنهما، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين وهم متلبسون بالمعاصي والظلم. فانجلى الموقف وزالت الشبهة وتفطن العلماء والناس لذلك ومضى يؤكد لهم هذا الموقف قائلا:
إذا رأيتموني في ذلك الجانب-يريد جانب العدو- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.
وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق. وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقة كبيرة وصحبته جماعة كبيرة يشهد القتال بنفسه وبمن معه. فظن بعض الرعاع أنه خارج للفرار فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد.. فلم يرد عليهم إعراضا عنهم وتواضعا لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.
وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسوة. ووصل التتار إلى قارة. وقيل: إنهم وصلوا إلى القطيفة فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن تكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألح الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كل حال. وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.. فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية.
وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق وقالوا: إن غلبنا فإن البلد لنا وإن غلبنا فلا حاجة لنا به.
ووقفت العساكر قريبا من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإياه جميعا، فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم.
وحرض السلطان على القتال، وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: إنكم منصورون عليهم في هذه المرة. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا.
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضا وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شي معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا به على القتال أفضل من صيامهم.
ولقد نظم المسلمون جيشهم في يوم السبت 2 رمضان أحسن تنظيم، في سهل شقحب الذي يشرف على جبل غباغب. وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء. وقبل بدء القتال اتخذت الاحتياطات اللازمة، فمر السلطان ومعه الخليفة والقراء بين صفوف جيشه، يقصد تشجيعهم على القتال وبث روح الحماسة فيهم. وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحض على الجهاد والاستشهاد وكان الخليفة يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.
ووضعت الأحمال وراء الصفوف، وأمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة. ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله. وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدمين معه.
واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحر القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة فقتل من قتل من الأمراء.. ولكن الحال لم يلبث أن تحول بفضل الله عز وجل، وثبت المسلمون أمام المغول، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغير وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتى أقبل الليل فتوقف القتال إلا قليلا، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، وقد تتبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عددا كبيرا، كما أنهم مروا بأرض موحلة، وهلك كثيرون منهم فيها، وقبض على بعضهم. قال ابن كثير:
(فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقهم). ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون منهم ويأسرون.
ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور.. والذي عبر فيه هلك. فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة.
وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له وهنؤوه بما يسر الله على يديه من الخير.
وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق وبين يديه الخليفة، وزينت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادا إلى الديار المصرية. وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحا كبيرا، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدم موكبه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى، واستقبل استقبال الفاتحين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة