- اسم الكاتب:أورخان محمد علي
- التصنيف:من ذاكرة التاريخ
كان قصر السلطان العثماني يموج بالحركة والنشاط في الثلث الأخير من شهر أبريل سنة 1481م.
الوزراء والقواد يجتمعون بالسلطان محمد الفاتح، ويقدمون له التقارير عن وضع الجيش وعن أسلحته وفرسانه وعن أعتدته وحاجاته وأرزاقه.
كان من الواضح أن السلطان مقبل على حملة جديدة ، حملة جديدة يقودها بنفسه كما هو دأبه على الدوام منذ عشرات السنين.
وفي يوم 25 أبريل عام 1481م اجتاز السلطان مضيق البوسفور مع حاشيته ووصل إلى "اسكدار" في الضفة المقابلة، وضرب سرادقه في موقع بين "مالتبة" و"كبزة" الحاليتين، وهو الموقع الذي أطلق عليه فيما بعد اسم "سلطان جايري" أي "مرج السلطان".
بدأ السلطان هنا بالاستعداد لحملته الكبيرة لم يكن السلطان يفصح عن وجهة حملته على الإطلاق.. كان تصرفه هذا اتباعا للسنة النبوية في هذا الأمر، وكان هذا دأبه على الدوام طوال حكمه الذي تجاوز الثلاثين عاما.. هذا الحكم الطويل الزاخر بالفتوحات الرائعة.
ولكن المؤرخين يخمنون أن هذه الحملة - التي لم تتم أبدا - كانت موجهة نحو إيطاليا.. لم تتم هذه الحملة لأن السلطان محمد الفاتح شعر في اليوم التالي بمغص شديد في بطنه.. مغص شديد ألزمه الفراش وجعله يتلوى من الألم.
كان طبيبه الخاص "يعقوب بإشا " بجانبه.. أنظار الصدر الاعظم والوزراء مصوبة إليه ترجوه مساعدة السلطان بأدويته الناجعة وهو الطبيب المشهور بحذقه ، ولكن لم تنفع الأدوية التي سقاها إياه الطبيب.. بل ازدادت صحته سوءا..
وأخيرا وبعد بضعة أيام فقط توفي السلطان محمد الفاتح.. كان عمره 49 سنة وشهرا واحد وخمسة أيام.. أما مدة حكمه فبلغت 31 سنة وشهرين وثمانية وعشرين يوما.. كان لا يزال في أوج قوته ونشاطه، فكيف مات إذن فجأة وبهذه السرعة ودون أي مقدمات ومن مغص في بطنه؟
تجمعت الشبهات حول طبيبه الخاص "يعقوب باشا". لم يكن هذا الطبيب مسلما منذ الولادة.. كان من إيطاليا.. من مدينة البندقية.. كان اسمه الأصلي "ماسترو لاكوب Maestro Lacop ، أشهر إسلامه بعد أن ادعى الاهتداء.. واتخذ اسم "يعقوب".
كان طبيبا حاذقا، لذا سرعان ما ذاعت شهرته في اسطنبول، فاتخذه السلطان محمد الفاتح طبيبا خاصا له، وأنعم عليه برتبة الباشوية.
سمع "البنادقة" بهذا الخبر فطاروا فرحا.. كانوا قد رتبوا قبل هذا 14 محاولة لاغتيال السلطان محمد الفاتح.. ولكن لم يوفقوا.. والآن سنحت لهم فرصة ذهبية.. فرصة ذهبية يجب ألا تضيع منهم أبدا..
اتصلوا به سرا ووعده بمكافأة كبيرة.. كبيرة جدا.. بلغت بالنقد الحالي 17 مليون دولار.
كانت عملية اغتيال السلطان عملية خطرة جدا.. ولكن المكافآة المالية كانت كبيرة جدا فلم يستطع مقاومة إغرائها. كان إغراء المال سببا مهما.. ولكنه لم يكن السبب الوحيد.
السبب الآخر المهم هو أن السلطان كان في نظره خطرا داهما على أوروبا النصرانية.. ألم يفتح مدينة "القسطنطينية" التي كانت مركز النصرانية وعاصمة إمبراطوريتها لمئات السنين؟ ألم يحول "آيا صوفيا" إلى جامع ؟ ألم يفتح المرفأ الجنوبي "إنز" ؟ ألم يفتح بلاد الصرب وبلاد اليونان ومورا والبوسنة. لذا لم يتردد طويلا ووافق على اغتيال السلطان.. قرر اغتياله بدس السم له تدريجيا ليبدو موته طبيعيا، فيتخلص من الشبهات ومن القتل.. ثم يهرب في فرصة مناسبة ويقضي بقية حياته في بحبوحة من العيش. وهكذا كان.. فقد بدأ يدس السم له بشكل تدريجي.. ولكن ما إن رأى أنه يستعد لحملة جديدة ضد أوروبا، حتى زاد من كمية السم الذي قضى على حياة السلطان محمد الفاتح.
ما إن انفضح دور هذا الطبيب القاتل الذي خان الأمانة وارتكب هذه الجريمة النكراء ضد شخص أحسن إليه وأغرقه بالهدايا والعطايا ، وكان من المفروض أن يحرص على صحته وعلى حياته ولا يغدر به هذا الغدر البشع، ما إن انفضح دوره حتى تناوشته سيوف حرس السلطان فقتل في الحال. قتل الطبيب الغادر ولم تسنح له الفرصة للتمتع بالمكافأة.
أما البنادقة فلم يصلهم الخبر إلا بعد 16 يوما.. جاء الخبر عن طريق الرسالة التي حملها البريد السياسي لسفارة البندقية في اسطنبول.. كانت الرسالة تحتوي على هذه الجملة التاريخية: "لقد مات النسر الكبير La Grand Aqulla e morta". وانتشر الخبر في مدينة البندقية بسرعة، ثم في المدن الأوروبية الأخرى، وبدأت الكنائس تدق أجراسها مستبشرة فرحة.. لقد مات النسر الكبير.. استمرت الكنائس في أوروبا تدق أجراسها لمدة ثلاثة أيام بأمر من البابا..
رحمك الله أيها النسر الكبير الشهيد.. وجعل الجنة مثواك.