إنهم يعرفون قيمة التاريخ

0 1322

في سبتمبر عام 1982م تناقلت وكالات الأنباء والصحف وكل وسائل الإعلام؛ أخبار أزمة عنيفة بين الصين واليابان، هددت الصين عندها بقطع كل الصلات الاقتصادية والاتفاقات التعاونية والعلاقات الدبلوماسية، بعد أن كانت هذه العلاقات قد بلغت قمة المتانة والقوة بين البلدين!! فما السر وراء هذه الأزمة؟

كان السبب في هذه الأزمة هو الخلاف حول بضعة أسطر في كتب التاريخ المدرسية: "نمي إلى علم الصين أن اليابان قد غيرتها قبل بدء العام الدراسي. فما شأن الصين بالكتب المدرسية اليابانية؟

لذلك قصة ؛ ففي أغسطس سنة 1945 ضربت اليابان بالقنابل الذرية الأمريكية، ومحيت بذلك مدينة (هيروشيما) ومدينة (نجازاكي) من الوجود، وبذلك انتهت الحرب العالمية الثانية، واستسلمت اليابان، وعندما أحكم الجنرال "ماك أرثر" قائد القوات الأمريكية المنتصرة قبضته على اليابان كان شغله الشاغل كيف يجعل ، أو كيف يضمن ألا ينبعث هذا العملاق العسكري الياباني مرة ثانية ، ولم يضيع وقتا، بل على الفور استقدم فيلقا من خبراء التربية الأمريكان ، كان هذا الفريق مكونا من (27) سبعة وعشرين خبيرا من عتاة التربية في أمريكا، وطلب منهم وضع خطة تربوية ، ومناهج تعليمية تؤدي إلى تفتيت الشخصية اليابانية، وتضمن القضاء على الروح القتالية، وعدم انبعاث القدرة العسكرية اليابانية مرة ثانية.

فرض الجنرال ماك أرثر على اليابان تغيير كل شيء، من تقديس الميكادو، وتقديس الأسلاف، والدستور... وكتب التاريخ ، بحيث صارت كتب التاريخ التي تدرس في المدارس تقول للتلاميذ: إن الجنرال (طوجو) القائد الياباني وجماعته كانوا دكتاتوريين، ومستعمرين ومجرمين، وهؤلاء هم الذين قادوا الجيوش اليابانية في الفترة البازغة من تاريخ اليابان التي فرضت فيها سيطرتها على منشوريا وكوريا واحتلت فيها ما يقرب من نصف الصين، وفي الحرب العالمية الثانية انضمت إلى هتلر، وحطمت الأسطول الأمريكي في (بيرل هاربور)، وظلت تقاتل وحدها نحو ثلاثة أشهر بعد سقوط ألمانيا، ولم تستسلم إلا بعد أن ضربت بالقنابل الذرية.

فرض على اليابان أن تتنكر لهذا التاريخ، وأن تصف قادتها بأبشع الصفات، حتى تنشئ أجيالا تتجرع هذه المرارة ، فتخرج عاجزة عن القيادة، وعن الجندية معا (ويل للمغلوب من الغالب).

وحين بدا لليابان أن ترفع هذه السطور من كتبها المدرسية، هاجت الصين وماجت، حتى اضطرت اليابان إلى الادعاء والرضوخ، وتنصل من ذلك رئيس الوزراء الياباني (سوزوكي) في مؤتمر صحفي قائلا: إن الأمر كان من مؤلفي الكتب، وأرسل مندوبين ونوابا إلى الصين لمعالجة الأزمة.

ولا يعنينا موضوع الأزمة وسبب الخلاف، وإنما يعنينا هنا أن ننبه إلى أمرين لهما مدلول خطير:

أولهما: إدراك قيمة التاريخ وأثره في صناعة الأجيال، وتوجهات الأمم، وهذا الإدراك واضح تماما من الجانبين (اليابان والصين)؛ فاليابان تريد أن تصحح أو تغير، والصين لا تتهاون ولا تتساهل، ويقف العملاقان وجها لوجه.

والأمر الثاني: الذي ننبه له هو رهافة الحس وشدة الانتباه من كل من الدولتين أيضا، وبخاصة من الصين، فكيف شعرت حكومة الصين بأن اليابان وهي تستعد للعام الدراسي الجديد غيرت هذه السطور؟؟ كيف شعرت الصين بذلك؟ فالكتب لم تكن خرجت من المطابع بعد؟؟ هل جعلت الصين من مهمة مخابراتها مراقبة الكتب المدرسية ؟ إن المخابرات عادة مهمتها مراقبة الأسلحة والجيوش والمفاعلات الذرية، والصناعات الإستراتيجية، والاستعدادات الحربية. فهل أضافت الصين إليها مراقبة الكتب المدرسية ؟

إخال ذلك قد حصل، والمخابرات في ذلك لم تخرج عن وظيفتها ومهمتها، فهي مازالت مخابرات عسكرية، ترقب قوة العدو وقدرته القتالية، فهذه الكتب المدرسية هي التي تصنع الرجال، وتصوغ الإنسان، الذي هو المحرك الأول، والفاعل الحقيقي في كل معركة، فبدونه لن تكون هناك جدوى لأي سلاح مهما بلغت قوته وكفاءته.

ولا ننسى أيضا يقظة اليابان التي لم تنسى ولم تنم، فهي على إدراك واع بأن هناك سطورا يجب أن تغير، قد فرضت عليها فرضا، وأرادت أن تنتهز فرصة العلاقات الطيبة التي بدأت تربطها بالعدو القديم، لعله يتغاضى أو يكون قد نسي، ولكن كان ما كان.

هذه قيمة التاريخ!!

وفي كتب التاريخ في عامة الدول الإفريقية تجد الحديث عن تجار الرقيق العرب، وأسواق النخاسة التي تصدر العبيد إلى الدول العربية، وقد لا تجد سطرا واحدا عن استرقاق الأوروبيين للأحرار الأفارقة واصطيادهم من مدنهم وقراهم باستخدام أخس أساليب الخداع والمكر، وتصديرهم إلى أمريكا بأبشع وسائل القسوة والامتهان.

فهل تنبه أحد منا لذلك؟

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة