السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع، لست أعرف كيف أبدأ، كل ما أعرف الآن أنني أريد التحدث لشخص ما يسمعني، ويكون أمينا معي ناصحا لي، أريد أن أشعر أن هناك بشرا على وجه الأرض بمعنى الكلمة، أريد أن أشعر أن الإسلام لا يزال موجودا فعلا في قلوب الناس وليس كما يرددون فقط، ولم لا والإسلام يأمرنا أن نكون نحن المسلمين كالجسد الواحد.
والله لا أعرف ماذا أقول، لكنني متعبة جدا نفسيا، إنني وددت أن أكتب لحضراتكم منذ وقت طويل، وها قد أذن الله سبحانه وتعالى لي بذلك والحمد لله. أريد فقط أن أطلب من حضراتكم سعة الصدر والتفهم العميق لحالتي التي لا أظنها تبدو لكم معضلة كما قد تبدو لي في لحظات اليأس التي تنتابني كثيرا، والله سبحانه وتعالى هو الموفق.
مشكلتي هي أنني أشعر بحزن عميق عميق عميق، لا أعرف هل هذا هو الاكتئاب أم ماذا؟ ولكنني بت أعجز عن كتمانه أكثر من هذا، فكرت في أن أذهب لطبيب نفسي، ولكنني لن أستطيع ذلك لأنني لا أريد إطلاع أحد من أهلي على ما ألم بي، وبذلك فأنا لا أستطيع أن أذهب إليه وحدي، فضلا عن أنني أريد ذلك الطبيب أن يكون على درجة عالية من التدين الحق وليس عاديا، يعني المهم أنني استنتجت من كل هذا أنني لن أستطيع أن أذهب إليه، ومن هنا فكرت في هذا الموقع الذي أحبه جدا والله، وأحس أن من فيه هم أخواني وأصدقائي فعلا، وعلى فكرة هذه الرسالة ليست الأولى لي هنا، فأنا صديقة قديمة للموقع.
أولا ـ أنا فتاة مسلمة أبلغ من العمر 20 عاما هجريا و19 عاما ميلاديا. بدأت هذه المشكلة عندي بوفاة أمي منذ ما يزيد على الخمسة أشهر، ماتت أمي بورم في الثدي امتد للرئة ثم ماتت أمامي في المستشفى لعجزها عن التنفس، والله العظيم كنت إذا تخيلت -فقط من باب التخيل- أنني يمكن أن أفقد أمي كنت أقول في نفسي لا! سوف أموت معها؛ لأنني لن أتحمل صدمة موتها! وكنت أدعو الله تبارك وتعالى كثيرا فأقول: اللهم اجعل موتي قبل موت أمي أو معها وارزقنا الشهادة! كان من الصعب علي أن أتخيل الحياة دونها، ولكن سبحان الله، ها هي ذا قد ماتت، وأمامي أيضا! وسبحان الله الذي ألهمني الصبر عند الصدمة الأولى، والله يا سادة لقد ألهمني الله تبارك وتعالى أن أدعوه بأن يثبتني وأن يلهمني الصبر عند الصدمة الأولى، وقد كان! حتى الآن أعجز عن تصور ذلك! وكيف أن الله تبارك وتعالى ألهمني الصبر على موتها ورحيلها هكذا! سبحان الله، والحمد لله تعالى أنني لم أرتد عليها السواد.
ودعوته سبحانه أن يلهمني الصبر وأنا أراها للمرة الأخيرة وقد ماتت، واستجاب سبحانه دعائي، فدخلت عليها وقبلتها، وأنا لا أكاد أصدق عيني، كأنني والله لم أكن أنا، ولكنني كنت منذ اللحظة الأولى أكثر من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله ـ يا سادة ـ عن تجربة، هذه الكلمة لها مفعول عجيب جدا، كأنما الثلج ينزل على قلبي وصدري، فأحس بسكينة غريبة، وأنني متحكمة في نفسي لأقصى درجة، سبحان الله! الآن دعوني أتكلم بصراحة، سوف أحكي لكم كل شيء عن تفاصيل ما حدث في نفسي بخيره وشره لا أرائي بخيره ولا أجاهر بالسوء منه، ولكنني فقط أريد أن أساعدكم لتساعدوني بإذن الله.
كانت أمي ـ رحمها الله ـ امرأة تعرف ربها، أحسبها على خير ولا أزكي على الله أحدا، ولكنني حتى بعد موتها أراها تقول لي أنها في الجنة وترتدي البياض وهي مسرورة والحمد لله رب العالمين، فقد قامت أمي على تربية أبنائها الثلاثة (أنا وإخوتي) بمفردها بعد طلاقها من أبي، وقد أعانها الله على ذلك، وكانت تحكي لنا كيف أن ما بها من نعمة وقوة هو من الله سبحانه وتعالى، وكانت تحكي لنا كيف أنها عندما ضاقت بها الحياة وتخلى أبي عن نفقاتنا، أنها ازدادت قربا من الله تعالى ويقينا به، وفعلا فقد كان الله تبارك وتعالى لها خير معين ووفقها لتربيتنا بالحلال وأعانها على ذلك ولله الحمد، أما أبي فأنا حتى الآن لا أعرف شكله، ولا هو يكترث لأمرنا، يعني أنه تماما كأنه ميت بالنسبة لنا، مع أنه يعرف طريقنا ولو أرادنا لجاء ولكنه ـ سبحان الله ـ قلبه لا يعرف الرحمة.
دعنا من موضوع الوالد الآن، المهم، أذكر جيدا حين كنت في المرحلة الابتدائية أنني في إحدى المرات التي ذهبت فيها للنادي مع أمي وإخوتي، خلوت بأمي فسألتها: من أكثر من تحبين في أبنائك؟ وبعد إلحاح قالت لي: هل تعدينني أن يظل سرا؟ فقلت لها: نعم، فقالت: أنت! وكم كانت سعادتي لسماع ذلك، قالت: هل تعلمين لماذا؟ لأنك حنونة! والله هذا هو ما حدث، هذا اليوم لا يمكن أن أنساه أبدا، فمنذ وعيت على هذا العالم لم أعرف حبا وحنانا كأمي، لقد كانت لي كل شيء فأنا أصغر إخوتي، أخي الذي يكبرني بعام عصبي جدا، وكنت أحسه يحب اللعب مع أختي أكثر مني، أما أختي فهي على ما أعتقد السبب الحقيقي في مشكلتي، والله قد كان قلبي في طفولتي مليئا بالحب لأختي، حتى ظننت لوهلة أنني أحبها أكثر من أمي بحكم أننا كنا نمضي فترات طويلة في البيت وأمي في العمل خارج المنزل، وكنت أتوسل إليها أن تلعب معي، وبعد إلحاح مني كانت تقبل، وكنت أحب اللعب معها، وأنا لا أعلم أنها لا تحبه، وكانت كثيرا ما ترفض أن ألعب بألعابها إلا بعد إلحاح مني كذلك.
كانت أختي من نوع الأطفال الذي لا يهدأ ولا يسكن، دائمة الحركة، مشاغبة لأقصى درجة تتصورونها، هذا ليس كلامي، وإنما كلام كل الأهل والأقارب، وأولهم أمي التي عانت منها كثيرا وعلى مرأى مني ومسمع، ونظرا لأنها كانت طفلة مشاغبة وهي أكبر مني بثلاث سنوات، فإنها كثيرا ما كانت تضايقني وتسبني، فكانت أمي تقول لي: لا تتشاجري معها ولا تردي عليها السباب ولكن أخبريني وأنا سوف أعاقبها، فكنت أقول لأمي بذلك فكانت أمي تضربها أو تعاقبها بما يتناسب وحجم ما فعلت، فكانت أختي دائما تتصور أنني أنا السبب فيما يحل بها من عقاب، وتقول أنت السبب أنت السبب، لدرجة أنها استمرت سنوات طوال ـ والله ـ تقول لي هكذا صراحة: أنا أكرهك! آخر مرة قالتها لي وكنا نمزح سويا، والله فجأة تغيرت ملامح وجهها وقالت لي: أنا أكرهك!
كانت أمي سيدة حادة الذكاء بشهادة الناس وليس كلامي أيضا، وكانت تقرأ كثيرا من الكتب الأجنبية عن تربية الأطفال لكي تتعلم أصول التربية السليمة كما وضعها أهل العلم، وغرست فينا بذور الإيمان والإسلام، وعلمتنا الصلاة، جزاها الله عنا كل خير، أريد أن أقول أن أمي كان لها من الذكاء ما يكفي لتتبين ما إذا كنت حقا قد ظلمت أختي أو أتجنى عليها أم لا، أنا آسفة للإطالة ولكنني أحاول أن أتحرى الصدق والدقة فيما أقول، وجزاكم الله خيرا.
كنت أشعر بشدة أن أختي تغار مني، ربما لأنني كنت متفوقة في دراستي، أما هي فلا، أو ربما لأنها كانت تعاقب أكثر مني وكانت تضرب بشدة أما أنا فلا، والله يا سادة لا أقصد الذم فيها ولا أن أمدح نفسي، ولكنني حقا كنت طفلة خجولة كتومة انطوائية لا أثير المشاكل، كنت حالمة في عالمي الخاص، يعني أختي وأنا كنا على النقيض تماما، حتى في المدرسة كان المدرسون كثيرا ما يطلبون أمي ويشتكون لها من مشاغبة أختي المستمرة، مع أنها طفلة ذكية لكنها لم تكن تستغل ذكاءها إلا في المشاغبة وليس الدراسة، أما أنا فقد كنت دائما من المتفوقين، لكن أختي تمتاز علي بأنها أكثر جمالا مني، صحيح كنت طفلة، لكنني كنت ساعات أحس بذلك الفرق فأقول لنفسي: لقد أعطاها الله تبارك وتعالى وجها أجمل من وجهي، وأعطاني شعرا أجمل من شعرها، فها نحن متساويتان!
لا أعرف كيف أستطرد، فالذكريات تتدافع أمام عيني كأنني أراها الآن، لازلت أحس ألمها، ربما لأنني كنت طفلة حساسة جدا، وهذا عيب في، أنني حساسة زيادة عن اللزوم، كنت في مرحلة ما أقلد أختي في بعض الأشياء، ولا تتصوروا كم كان هذا يضايقها، لأنها كانت تريد أن تتميز، ربما بحكم أنها مراهقة، ولكنني كنت طفلة، وهذا طبيعي عند الأطفال أن يقلدوا من هم أكبر منهم سنا، فكانت تتشاجر معي وتقول لي لماذا تقلدينني؟؟ كانت على وشك أن تهز ثقتي بنفسي، ولكن في إحدى المرات قالت لها أمي: بالعكس أنا أحس أن فلانة (يعني أنا) لها شخصية مستقلة! هذه اللحظة لا يمكن أن أنساها لأنني أعتبرها لحظة مهمة في حياتي وبداية مرحلة القوة الداخلية عندي! شعرت أن هناك من يفهمني ويقف إلى جواري وهي أمي، كنت سعيدة جدا وهي تدافع عني.
ومرة بحت لأختي بسر من أسراري، فوجدت الناس كلها تعرفه، فقلت لها أنني لن أبوح لك بسر مرة أخرى، فقالت لي: وهل هذا سر؟ إنه أمر تافه، فقلت لها: من يحدد أنه تافه أم لا ؟ أنا صاحبة الشأن، ثم هل إذا بحت لك بسر فوجدت أنت أنه أمر تافه أفشيته، من لحظتها قررت ألا أبوح لها بأي شيء أبدا، أعترف أن السر حينها كان أمرا صغيرا ولكنها مسألة أمانة، أليس كذلك؟ إنني أحكي مواقفها العديدة معي التي تركت أثرا لا ينسى في نفسي، لكي تساعدكم في الحكم علي.
كنت هذا النوع من الناس الذي يحكي كل شيء للورقة والقلم، كل ما يجول في ذهني كنت أحوله كلاما أخطه في دفتر خاص ممنوع على أحد الاقتراب منه، كنت منطوية، أحب القراءة عن الحكم والأمثال والأدب والدين والشعر، فلست من النوع الذي يجيد الكلام، حتى أنني كنت أخاف لقاء الناس وأفضل البعد عنهم، وكنت أبكي إذا زارنا أحد لأنني سأضطر لأن أسلم عليه! مع العلم أنني كنت أحب أن يزورنا أحد مع أن هذا كان شيئا نادرا نظرا لأننا كنا نعيش في إحدى دول الخليج بعيدا عن الأهل في مصر، أو ربما كانت أمي تبالغ في الخوف علينا، ربما من الاختطاف؛ لأن مثل هذه الحوادث كان منتشرا آنذاك، وكانت تخاف علينا من أبي أن يختطفنا منها (وهذا ما علمناه منها عندما كبرنا)، فترك خوفها علينا أثره في نفسي.
مكثنا تسع سنين متصلة في هذه الدولة دون أن نزور فيها مصر أبدا، وبعدها قررت أمي أننا يجب أن نتعرف على أهلنا في مصر، فكان أن سافرنا مصر، وكان لي خال له ولد وبنت، هذه البنت كانت صديقة لأختي لأن أختي مكثت في بيتهم لفترة كانوا فيها كالإخوة تماما، ولذلك فقد كان من السهل عليها وعلى أختي أن تندمجا سويا بسهولة، أما ابن خالي فقد صار صديقا لأخي، وهكذا كنت أشعر بشيء من الوحدة، وكنت أحتار مع من أندمج فيهم؟ كنت آنذاك في الـ11 من عمري، حتى أنني كنت أبكي وأقول أنني زيادة! لأنني لم أكن أجد من أتحدث معه! وأذكر ذات مرة أن قالت أختي لي شيئا بنفس المعنى، وكان لهذا أثر سيئ في نفسي، فوجدتني تلقائيا أندمج ناحية الأولاد أخي وابن خالي، لم يكن في ذهني أي شيء، وكنت أحب اللعب مع ابن خالي هذا لأني كنت أحس أنه طيب ورقيق، ربما بالغت في ذلك، حتى وجدته ذات مرة يقول لي أمام أخي وأختي وهو يستجمع شجاعته: على فكرة أنا أحبك جدا! فتركت الغرفة وانصرفت وأنا لا أعرف ماذا أفعل، تصوروا ماذا كان رد فعل أختي التي كانت حينها فتاة بارعة الجمال يتهافت عليها الكثير من الشباب، وجدتها تجلس على أحد المقاعد وتنظر إلي بأسى وتقول لي أنني أوفر حظا منها لأنها برغم كل من أحاطها من الشباب لم يقل لها أحدهم إنه يحبها!!
والله يا سادة رد فعلها نفسه كان غير طبيعي، كان من السهل على طفلة مثلي أن تشعر بهذا، لا أنكر أنني كنت سعيدة بما قال، ولكنني لم أخبر أحدا حتى أمي بما حدث، فوجدت أختي توسوس لأخي بأنه يجب أن تفتن علي عند أمي، وأنا موقنة يا سادة أنها ما كانت لتفعل ذلك حرصا علي مثلا ولكنها كانت تريد أن تكشف سري - إن جاز التعبير - أمام أمي، توجهت أختي وأخي لأمي وأخبراها أمامي أن هناك أحدا فينا نحن الثلاثة (يحب) فماذا سيكون رد فعلك يا أمي لو عرفت بذلك؟ فردت أمي بحكمتها المعهودة أنها ستحاول أن تفهم منه أولا، وكانت جلسة طويلة بينهم وبين أمي يحاولون فيها إيذائي والتلميح بشكل شبه مباشر أنني أنا المقصودة ولكم أن تتصوروا كم كان الموقف محرجا على من هي في مثل خجلي وانطوائي، والله يا سادة كنت في قرارة نفسي أنوي أن أحكي لها، ولكن بعد ما فعلوا قررت أن أحتفظ بسري لنفسي عندا فيهم لأنهم تدخلوا فيما ليس لهم به شأن.
أعتذر عن الإطالة في سرد بعض الحكايا ولكني أعتقد أنها قد توضح الرؤية أمامكم بصورة أفضل.
المهم أن أختي هذه كانت هكذا مع الكل تثير المشاكل، مع العلم أنها شخصية اجتماعية جدا ومحبوبة من الكثيرين ـ سبحان الله ـ في حين أعتبر نفسي أنا غير اجتماعية، بل انطوائية بعض الشيء، ليس لأنني لا أحب الناس، ولكن لأنني خجولة جدا، علما بأنني أعاني من التهتهة أو ما يسمى بالتأتأة في الكلام، ولكن الحمد لله رب العالمين أنها بشكل طفيف جدا قد لا يبدو ملحوظا لكثيرين، أو ربما يكون هذا الخجل ضعف ثقة بالنفس.
ولقد كانت أختي تعق أمي بشكل واضح وترهقها نفسيا جدا، كنت أغضب أمي أيضا ولكن الفارق كان لا يقارن، ولهذا السبب كانت أمي تحبني وتعتبرني حنونة على حد قولها، فقد كنت بتوفيق من الله سبحانه وتعالى أطيع أمي، كنت حريصة على تعلم ديني وهذا فضل من الله تبارك وتعالى، كنت أعلم جيدا مكانة الأم فضلا عن أنني كنت أحب أمي حبا لا يوصف لدرجة أنني كنت أكثر من نام في حضنها ليس فقط وأنا طفلة ولكن حتى بعد أن كبرت كنت كثيرا ما أنام معها!
لقد تزوجت أمي وأنا ابنة الـ10 سنين بموافقة أبنائها جميعا، تزوجت من رجل فاضل يحبنا كأبنائه تماما، ولقد قال لنا بعد أن توفيت أمي أنها قالت له: هل تعرف لماذا أتزوجك؟ ليس رغبة في الزواج وإنما لكي يكون لأبنائي أب! إنه حقا رجل فاضل وأحسبه على خير ولا نزكي على الله أحدا، ولكنه لم يكن يبيت عندنا كل ليلة لأن لديه أبناءه في بيت ثان مع أمهم التي طلقها، ولذلك كنت كثيرا ما أنام بجانب أمي، قصدت بذلك أنها كانت مصدر الحب في حياتي، كانت تحاول تعويضنا عن غياب الأب، وكنا نحس بشيء نفتقده، حتى أنني كنت أراسل مدرستي في المدرسة وكنت أحبها وأكتب لها الشعر، ثم بعد أن كبرت شعرت أنني كنت أراسلها نظرا لأنني أفتقد حنان الأب أو لأنني أريد حبا أكثر!
كان يجب أن أشعر بالحب، والله كنت أمارس حبي وعواطفي مع الله سبحانه وتعالى، نعم كنت أتحدث إليه وأناجيه وأبكي وأنا أدعوه تارة حبا وتارة خشية، والحمد لله عشت أياما مع الله وفي رحاب الله تعالى هي أجمل أيام عمري وأرجو أن يعيدها الله تعالى علي مرة أخرى، كانت أختي تضايق أمي وكنت أنا أحاول أن أرضيها، فكانت أمي تحبني، فإذا شعرت أختي بذلك تقول لأمي وهي مغتاظة: نعم ألست في نظرك ابنتك العاقة وهم أبناؤك البررة؟!
ويعلم الله كم سكت عن أختي وعن مضايقتها لي، وكم صبرت أمي عليها، وكم كانت تحبها وترجو لها الخير وأن يهديها الله تبارك وتعالى، لدرجة أنني كنت ساعات أحس أن أمي تحب أختي أكثر مني لأنها كانت تمضي معها الساعات تكلمها في حين أنها كانت لا تطيل الكلام معي كثيرا، كنت أعرف أنها تفعل ذلك محاولة لإصلاح أختي وتفهيمها، وأنني كنت أعقل منها فلذلك كنت تقريبا لا أحتاج لهذا الجهد المضاعف من قبل أمي، وخاصة أن أمي كانت حريصة على إقامة علاقة صداقة بينها وبيننا.
المهم أن أختي من النوع الذي يحس بالأشياء قبل وقوعها، وتراها في الحلم، وقد أنعم الله سبحانه وتعالى عليها بنعمة تفسير الأحلام، وهي سبحان الله تغتر بذلك، يعني تظل تذكر ذلك أمامنا، وتتحدث عن قدراتها الخارقة في الشعور بالأشياء قبل وقوعها، فإذا وقعت تظل تقول: ألم أقل لكم أن هذا سيحدث! حتى مللنا جميعا منها، كنا نقول: يعني ماذا تنتظرين منا أن نفعل! لقد حولت الحياة إلى شيء سخيف باستمرار قولها: أنا أعلم، ألم أقل لكم، ومثل ذلك من العبارات التي لا تفارقها أبدا! لدرجة أن أمي ذات مرة صاحت فيها وهي تقول: أنت تحاولين لي الأحداث لتقولي أن حلمك قد تحقق!
والله لقد كانت تضايق أمي كثيرا، ولم أشعر يوما أن علي واجبا تجاه أمي بأن أوقف هذه الأخت عن مضايقاتها لأمي، بل كنت أشعر أن دوري في أن أبر أمي وأرضيها بشتى الوسائل ولو على حساب راحتي، يعني مثلا كانت أختي ترهق أمي بطلباتها التي لا تنتهي، فتحب دوما أن تفرض رأيها ولو على أمي، وتحب دوما أن تجدد في ثيابها بشكل غير معقول، يعني تحب شراء الملابس، وأشياء أخرى كانت تعملها لا يتسع المقام لذكرها، ويكفي أن أقول لك أنني أول مرة أرى فيها أمي تبكي كان بسببها! ولكن أمي كانت تلتمس لأختي العذر بقولها: إن أختي هي أكثر من عانى من أبي حيث كان يضربها بقسوة وهي ابنة الثلاث سنين مما أصابها بما يشبه العقدة النفسية بأن تكون عصبية بشكل مزعج! وكانت أمي تسألني أن أعاملها بحنان وأن أصبر عليها، وتقول إن لأختي قلبا طيبا حقا.
نعم إن أختي كثيرا ما كانت تحنو علي وتدافع عني، وكانت تبكي لمشهد مؤثر أو لمواقف بسيطة، فهي بالفعل طيبة القلب ولكنها مزعجة جدا لأن تكون معها في بيت واحد 24 ساعة! أصيبت أمي بالضغط، ولذلك كنت حريصة على صحتها وأخاف أن أغضبها، مع أني والله لم أكن ابنة مثالية، فقد كنت كسولة جدا وكان هذا يضايق أمي مني جدا، وحين كنت أسألها هل تحبينني؟ كانت تقول نعم ولكنني أكره إهمالك! ولكن على الأقل كنت أحاول ألا تبيت أمي وهي علي غاضبة، فكنت أذهب إليها أسترضيها وأقبلها وأعدها بأن أحسن نفسي.
كنت كثيرا ما أتغاضى عن حركات أختي الاستفزازية من أجل الله تبارك وتعالى ومن أجل أمي، حتى حدث ما لم نكن نتوقعه فقد أصيبت أمي بهذا الورم الخبيث الذي أفضى فيما بعد لموتها، وكما يعلم الجميع أن هذا المرض يستوجب رعاية نفسية خاصة للمريض، كانت أمي تعاني ضغوطا نفسية كثيرة بسبب ظروف الحياة وتحملها مسئوليتنا جميعا وحدها، ولذلك كانت تخاف علينا جدا، في مرحلة مرض أمي بالذات، أبدت أختي تناقضا كبيرا في تصرفاتها، فعلى قدر ما كانت عصبية ولم تتخل عن طباعها الحادة، فقد كانت تعد الطعام لأمي وتدللها وتضحكها وتمازحها، فقد كانت أقدر من يستطيع إضحاك أمي وإسعادها! وأكثر من ينكد عليها كذلك! سبحان الله! في حين أنني لم أتحسن بخصوص كسلي، والله إن هناك مواقف كسل لي أخجل حتى من ذكرها، ولكن هذا عيبي البارز، ومن منا يخلو من العيوب؟ وهذا ما يجعلني أحس بالذنب البالغ تجاه أمي رحمها الله، فعلى قدر ما كانت أختي تغضبها، لم أستطع أن أبرئ نفسي من ذنب أمي.
وحين ذهبنا إلى المصيف للترويح عن أمي، افتعلت أختي شجارا عنيفا جدا مع خالي حتى كاد يضربها وأمام أمي، فدخلت أمي الغرفة وراحت تبكي! فدخلت خلفها أخفف عنها، وأقول لها: لا عليك ألا تعرفين فلانة (أي أختي) إن هذا ليس بالجديد عليها، ولكن هذا الحادثة كان لها أثر كبير في تسارع تدهور حالة أمي، وما يضايقني في الأمر أنني لم أفعل شيئا يوقف أختي أو يحد من تصرفاتها الشيطانية، نظرا لأنني كنت أعلم أن محاولتي ذلك لن تزيد أختي إلا عنادا، وكنت أخاف أن تزداد حدة مثل هذه المواقف بتدخلي نظرا لأن أختي لا تطيق لي كلمة، وكنت كثيرا إذا حاولت نصحها تقول لي أن أصلح من نفسي أولا ثم بعد ذلك ألتفت لها!
أنا أعلم أنني لست كاملة وأن الكمال لله تعالى وحده، ولكنني أحس أن أختي هي السبب وراء تدهور حالة أمي، إنني موقنة بأن هذا قدر وأنا راضية به والحمد لله رب العالمين، ولكنني لا أستطيع أن أسامح نفسي، ولكن يا ترى ماذا كان بوسعي أن أفعل تجاه أخت كهذه! والله إنها شخصية صعبة للغاية والله إنني مكتئبة منها! تحاول فرض رأيها بالقوة والصوت المرتفع، ولو لزم الأمر بالعنف! والغريب أنها حساسة للغاية وتبكي عندما تخلو بنفسها ندما على إغضاب الآخرين!! قد تعبت منها جدا، والله يا سادة لو أملك أن أترك لها البيت لفعلت، لقد وصتني أمي عليها ووصتها علي، وترى أختي أنها تعاملني بمنتهى اللطف والصبر وأنني أنا التي أضايقها!
ونظرا لأنني لست ممن يجيد الدفاع عن نفسه والشجار، فقد عجزت عن الرد عليها لأنني أصلا فاقدة الأمل في أنها يمكن أن تفهمني أو تشعر بي! فضلا عن أنها تحاول التقليل من شأني، فلا أعرف ماذا أفعل، وخصوصا أنني أخاف أن أغضب الله تبارك وتعالى، وأحاول أن أتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أكون حليمة إذا جهلت علي أختي، ولكنني ساعات أحس بأنني جبانة أتستر بالدين وأتخذه حجة!! والله أصبحت لا أعرف ماذا أفعل؟ أتشاجر معها أم أصبر؟
إنني الآن أعيش أزمة حقيقية، فأنا أفتقد أمي، أفتقد الحب، أشعر أن لا أحد يحبني، أحس برغبة في الموت، وساعات أحس برغبة قوية في أن أكون شيئا، لطالما كان حلمي أن أكون داعية، ولكنني الآن أشعر بأنني بقايا إنسان، ساعات أحس بأن عمري ضاع، وأنه لا فرصة لي لتحقيق شيء! إنني يا سادة أحمل قلبا متعبا، حائرا، إنني لا أجد صديقة تقف إلى جواري، نعم لي علاقات، ولكنها علاقات محدودة للغاية وغير قوية، إنني والحمد لله أملك صديقة تحبني وأحبها في الله، ولكنها في كلية غير كليتي، وبذلك فأنا لا أحكي لها كل شيء، إنني أحتاج إلى من أتكلم معه، أحتاج إلى صحبة صالحة، إنني أدعو الله تبارك وتعالى أن يجعل حبي في قلوب الناس، لأني حقا أحتاج إلى ذلك.
والغريب أنني أصبت بحالة من الصمت بعد وفاة أمي، لكنه صمت من نوع آخر، إنني فقدت الرغبة في كلام، بدافع من اليأس، أقول لنفسي: ماذا يجدي الكلام! أصبحت إنسانة مملة وإن كنت أتظاهر بالقوة، لقد كانت أمي هي الشخص الوحيد الذي يبث في ثقة بالنفس، وبعد أن رحلت لا أجد من يقوم بهذا الدور في حياتي! أشعر بأنني أنحدر، وأخاف على نفسي، ومما يحيرني أن أختي قد ارتدت الإسدال قريبا والكل يقول لها أن وجهها أصبح أكثر نورا من بعده! ويستوقفها الناس في الشارع ليبدوا لها إعجابهم بها وكم هي جميلة! ويستوقفونها ليطلبوا خطبتها! إنني أحس بأن أختي لم تتغير بهذا الإسدال كثيرا وإن كان هناك تغير طفيف، إنها لا زالت تؤذيني وتعتقد في قرارة نفسها أنها الضحية! وتقهقه وهي تقول لصاحباتها أن شباب البلد كلهم يطلبون خطبتها ويبحثون عنها! إنها تقولها مازحة ولكنني أعتقد أن لها أبعادا أخرى! فهل هذا لأني أغار منها؟
والغريب أن الناس تحبها هكذا من دون سبب! وهذا ما يجعلني في حيرة! فهل أنا مخطئة؟ إن أمي كانت تقول لي أنني على صواب وأن أختي هي المخطئة في حقي! ولكنني الآن أجد الأمور مختلفة! هل تعلمون أيها السادة أن أختي دائمة الذكر لمحاسنها وعبقريتها وأنها رائعة الجمال، وفي الواقع أن الناس هي السبب لأنهم كما قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ( المغرور من غررتموه) وأختي بالفعل مغرورة بما وهبها الله تعالى من نعم.
شيء آخر لا أفهمه، وهي أن الدعوة لطالما كان حلمي، أي أن أكون داعية، ولكن ـ سبحان الله ـ فإن أختي بعد ارتدائها الإسدال صارت الدعوة هي التي تأتي إليها! إنني أكاد أجن، وأحس أنني أغار منها لأول مرة في حياتي، وأنا أكره أن أحمل بين صدري هذه المشاعر البغيضة، فأنا أعلم أن هذا رزق من الله تعالى، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ولكنني أحس بأن الدنيا كلها تغيرت بموت أمي، حتى أختي التي لم تلمح يوما إلى فارق الشكل بيني وبينها -علما بأني أيضا أعتبر جميلة- صارت الآن تباهي بأنها تشبه أمي كما يقول لها الجميع (أمي كانت جميلة للغاية) وتغيظني بذلك، وبصراحة أنا أعتبر أنها بذلك تحاول أن تشعر بأن التشابه الشكلي بينها وبين أمي يخفف من إحساسها بالذنب تجاهها إن كانت أصلا تشعر بالذنب، وكأن التشابه دليل على أن أمي خصتها بالحب مع أن هذا غير صحيح!
إن أخوالي يقولون لها أنها شبه أمي شكلا وفي طريقة كلامها وأسلوبها، ويقولون لي أنني في منها، وهي تغتر، إنها بالفعل قد تكون ذكية ولكنها ليست أذكى مني، وبشهادة أمي، كانت تقول أنني أعقل منها بكثير، وأن أختي لها عقل تحليلي، وأنا أحاول أن أعبر عن نفسي ولكنني لا أعرف كيف لأنني لم أتعود ذلك، فتظن هي بصمتي أنها تفوقت علي، فتزداد غرورا لا أساس له! المشكلة أن أختي الآن تزداد غرورا يوما بعد يوم، وتزداد حياتي أنا جحيما، فلست أجد من يفهمني، ولست أجد من يحبني، ولست أعرف أين الصواب! إنني حقا حائرة!
إنني أحتاج إلى من يقول لي في نفسي قولا بليغا، لقد كنت في يوم من الأيام على درجة عالية من التدين ولكنني الآن لا أعرف ماذا أصابني، إنني أصاب بنوبات من ضيق التنفس بسبب حزني، وبسبب الأنيميا لأنني أشرب الشاي كثيرا ولا أحس بشهية لتناول الطعام، والله مرة أخرى لو أجد طريقة للخروج من حياتنا أو أن تخرج من حياتي لفعلت، إنها شخصية مستفزة، فهل بالضرورة أن يكون حب الناس لها دليل الخير ودليل أن الله تعالى يحبها؟ لقد أصبحت لا أستطيع أن أحبها وأدعو الله كثيرا أن يصلح بيننا أو أن يفرق بيننا بدون قطيعة رحم.
إنني أريد أن أرتاح، فهل تنصحونني بالذهاب للطبيب النفسي؟ وكيف أصلح ما بداخلي إن كنت على خطأ؟ الغريب أن أختي أيضا الآن أصبحت تسمع شرائط الخطب وتدعوني إليها مع أن سلوكها لم يتغير وغرورها أصبح شيئا لا يطاق، سبحان الله، وهي التي كانت ترفضني وأنا أدعوها لفعل شيء حسن أو أنهاها عن منكر! أرجو أن أكون قد وضحت الصورة بأمانة وصدق، وأسأل الله العلي القدير أن يلهمكم الصواب.
أرجوكم سرعة الرد علي فأنا في تدهور على كافة المستويات، أصبحت أكثر انعزالا عن المجتمع، وعندما يزورنا الأقارب أبكي بحرقة، وتدنى مستواي الدراسي كثيرا، ولا أعرف ما الحل! أخبروني كيف أرضي الله تبارك وتعالى وكيف أعبر عن نفسي بغير جبن ولا فحش، وكيف أكسب حب الناس وتقديرهم، وهل يعتبر هذا رياءا؟ إذا احتجتم لأي استفسار مني فأرجو من حضراتكم أن تسألونيه قبل أن تردوا علي لعل الله يهديني بكم، جزاكم الله خيرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.