دفع شبهة ترك الأسباب لسبق القدر

1 592

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أريد الاستفسار عن مفهوم القضاء والقدر، فعندما أتعمق به أشعر بالحيرة، وأنهي تفكيري بلا إجابة، ولا أخلص إلى أي نتيجة، فمثلا: المرض مكتوب، ولحظة الشفاء مكتوبة، فهل الدواء والطبيب والدعاء مهزلة إذا كانت كل حياتنا مكتوبة؟ فلم العمل والسعي؟ وإذا كان الرزق لن يتغير فلم التماوت من أجل الحصول على المال؟

أحيانا ننغص معيشتنا، ونحرم أنفسنا من متاع الحياة لنعمل ونحصل على المال، فهل نضحك على أنفسنا؟ ولم يسع الرجل للزواج بامرأة صالحة إذا كتبت له زوجة سيئة وكذلك المرأة؟ ولم ولم ولم؟

أما إن كان مفهوم القدر أنه علم الله المسبق للأشياء؛ فهذا أقرب للعقل؛ لأنه تعالى يعلم أن فلانا سيسعى لرزقه، وفلانة ستختار هذا لدينه وغير ذلك.

وكيف نقول لفتاة أو لشاب: أحسن اختيارك إذا كان زواجه مكتوبا قبل ولادته؟ لا أستطيع إقناع نفسي بهذا أبدا، أرجو التوضيح، وأتمنى أن أكون وفقت لاختيار المفردات التي تعبر عن حيرتي؛ حيث إن تجاهل الأمر بالنسبة لي مستحيل؛ لأنني يجب أن أحدد إذا كان الله سيستجيب لدعائي أم أنه إذا كتب لي هذا الرزق فقط أحصل عليه دعوت أو لم أدع، سعيت أو لم أسع.

وإذا كان الرزق محدودا فلم أجد الثلاثة من الصحابة الذين قال لهم الرسول الأكرم أن يدعوا الله فهم مجابو الدعوة، لا أذكر التفاصيل ولكن أحدهم دعا بالزواج من فتاة معينة وتزوجها، فهل هي مكتوبة له أم أنه لو لم يدع ما تزوجها؟ والثالث الذي طلب مرافقة الرسول بالجنة هل سيدخل الجنة لأنه دعا أم لأنه كان ذا عمل صالح يدخله برحمة ربه؟
أعتذر كثيرا للإطالة، وأرجو أن تكون الإجابة واضحة ومفصلة، وشكرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سعاد حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فمرحبا بك أختنا الكريمة في استشارات إسلام ويب، ونحن نشكر لك تواصلك معنا، كما نشكر لك حرصك على تعلم أمور دينك، فإن الإيمان بالقدر جزء من الإيمان، وهو الركن السادس من أركان الإيمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان، فقال: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى).

وهذا الإيمان الذي كلفنا الله عز وجل به داخل تحت قدرتنا واستطاعتنا، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو أمر سهل يسير مبعد عن كل حيرة واضطراب ولله الحمد، فإن القدر معناه أن يؤمن الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء قبل أن تقع، وكتب سبحانه وتعالى ما سيقع بهذا العلم، وأنه سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شيء، وأن مشيئته نافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، هذا هو مختصر الإيمان بالقدر، فالقدر كله راجع إلى علم الله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى علم ما سيقع وما هو كائن وما كان، وما أثبته سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ إنما أثبته بعلمه، ولكنه سبحانه وتعالى قدر لهذه المقادير أسبابا، فمن سننه الكونية سبحانه وتعالى أن ربط النتائج بالأسباب، وكلف العباد بأن يأخذوا بهذه الأسباب، ولم يكلهم إلى ما كتب في اللوح المحفوظ، فترك الأسباب قدح في شرع الله تعالى؛ لأن شرع الله تعالى أمر العباد بأن يأخذوا بأسباب ما ينفعهم، سواء في ذلك دنياهم أو دينهم وآخرتهم.

فالإنسان مأمور بالأخذ بالسبب، ولا يصح ولا يقبل منه أن يعتذر بما قد كتب في اللوح المحفوظ، فإن هذا المكتوب في اللوح المحفوظ لا يعلمه الإنسان، فكيف يصح أن يحتج بشيء لا يعلمه إذا جاءه الأمر أو النهي بأن يفعل كذا أو يترك كذا، فهناك شيء يعلمه وهو ما كلف به الإنسان وما طلب منه، وشيء لا يعمله وهو ما كتب في اللوح المحفوظ، فهو مطالب مأمور بأن يفعل ما يعلم.

وقد أخبرنا سبحانه وتعالى في كتابه عن مريم عليها السلام أنه أمرها أن تهز النخلة، وهي في حال مرضها ووضعها تعاني ما تعاني من الآلام مع كونها امرأة ضعيفة، ومع هذا كله كلفت بهز الشجرة، وهي لا يهزها إلا جماعات من الرجال الأشداء، ولم يأمرها سبحانه وتعالى بهذا إلا ليعلم البشر الأخذ بالأسباب، وقد قال الشاعر:

ألم تــر أن الله قال لمريم *** وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزة *** جنته ولكن كل شيء له سبب

فالله عز وجل قدر للزواج أسبابا، وقدر لتحصيل الذرية أسبابا، وقدر للأرزاق أسبابا، وقدر لدخول الجنة أسبابا، ولدخول النار أسبابا، وهكذا كل النتائج لها أسباب توصل إليها، وقد علم الله سبحانه وتعالى في الأزل أن فلانا سيأخذ بالسبب الفلاني، فتحصل له النتيجة، وأن فلانا لن يأخذ بالسبب فلن تحصل له تلك النتيجة، فكتب سبحانه وتعالى ما يعلمه، ولكن هذه الكتابة وهذا العلم ليس فيه إجبار لهذا الإنسان على أن يفعل شيئا، الإنسان له قدرة تامة وله اختيار، والله عز وجل أوجد فيه القدرة على الاختيار، ومنحه سبحانه وتعالى القدرة على التنفيذ، فهو يختار بإرادته وينفذ بقدرته، وتلك القدرة من الله تعالى، لكن الله عز وجل علم ما سيتصرف به الإنسان فكتب ما علمه، فليس فيه إجبار لهذا الإنسان على شيء، ولا يمكن أن يعمل هذا الإنسان شيئا مخالفا لما علمه الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل يعلم وعلمه لا يتخلف.

وبهذا يزول عنك الإشكال -إن شاء الله- في مسائل القدر، والأمر جلي واضح، ومع وضوحه وجلائه نحن ننصحك أيتها الكريمة بأن تصرفي النظر عن التمعن والتفكر الزائد في هذه القضايا؛ فإن الإنسان قد يصل إلى بعض المضايق التي لا يستطيع أن يتصورها كلها بسبب قلة علمه مثلا، ولهذا أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى السكوت والانصراف حين يتكلم أو يتحدث في مسائل القدر، فقال عليه الصلاة والسلام: (وإذا ذكر القدر فأمسكوا)، فكيفي الإنسان المؤمن أن يعلم بأن الله يعلم ما سيكون فكتب ما علمه، ويكفيه أيضا أن يعلم بأن الإنسان له إرادة يختار بها وقدرة ينفذ بها، وأن الله عز وجل كلفه بالعمل بالأسباب، فيفعل من الأسباب ما يقدر عليه، ثم يكل النتائج إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يصح منه أبدا أن يرى السبب ثم يتركه ويقول: أنا لن أعمل بهذا؛ لأنه إن كان قد كتب في اللوح المحفوظ فسيكون، لا يصح منه الاحتجاج بهذا، فهذا مناف للعقل؛ فإن الله عز وجل جعل الزواج سببا لتحصيل الولد وجعل أكل الطعام سببا للشبع وشرب الماء سببا للري، فلا يصح من الإنسان أن يترك شرب الماء ويقول: إن كان الله عز وجل قد قدر لي الري فإني سأروى، فإن الله قد قدر لك الري وقدر لك أيضا أن تشرب الماء من أجل أن يكون سببا للري، فهذا هو دور الإنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الأسباب المشروعة ويعلم بأنه لن يصل إلا إلى ما قدره الله سبحانه وتعالى له.
نسأل الله أن يزيدنا وإياك علما وفقها في دينه، وأن يشغلنا بما ينفعنا.

مواد ذات صلة

الاستشارات