السؤال
السلام عليكم..
يأمي كأي أم عظيمة تريد لابنتها الحياة سعيدة، ولكن منظور والدتي لهذه السعادة يختلف عن منظوري وزاويتي الخاصة، فهي ترى سعادتي في ارتباطي برجل ينفق علي ويسعدني، وأنجب وأعيش حياتي في كنفه، أربي وأقوم برعاية أبنائي، أو أن أصبح معلمة على الأقل.
بالمقابل أنا حتى لا أتصور ذلك، أو أؤمن وأقتنع بهذه الفكرة، فأنا أريد أن أستمر في تعليمي، أحصل على الشهادات التي أريدها، أتقدم في المشاريع التي أخطط لها، أنجز أكثر وأكثر، وأن أصنع شيئا مختلفا لا يطوى مع الزمن، وأن أجعل أهلي يفخرون بي في كل مكان وبأي زمان! أبغض فكرة بقائي في البيت وأقضي جل حياتي دون أن يذكر لي شيء وتكون لي بصمتي الخاصة، ولو في الشيء اليسير.
تكاد أمي أن تجن، فهي لا تزال ترى أن كل هذا سخف وهراء وهدر للأموال والأعمار فيما لا يفيد، أحاول إقناعها بالطرق المناسبة، الآن وبعد 4 سنوات من المحاولات لا تزال ترتكز في بالها هذه الفكرة، أنا متقينة من حبها وخوفها علي، لكن ما تريده هي لا يبلغه حتى خيالي! فهل استمراري فيما أريد عقوق لها؟
أتمنى أن تكون الصورة واضحة وجلية الآن، وشكرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ منو حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
بداية نحيي فيك -ابنتنا الفاضلة- طموحك العالي، ونرحب بك في موقعك، ونسأل الله أن يلهمك السداد والرشاد، وأن يرزقك بر هذه الوالدة التي تريد لك الخير وتحمل تجاهك المشاعر النبيلة، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
يسعدنا أن نقول لك ولأمثالك من بناتنا الفاضلات: نحن في خدمة أبنائنا وبناتنا الذين ننتظر منهم الخير الكثير، وأرجو أن تحرصي على إرضاء الوالدة، ولو بحسن الاستماع لكلامها، والاجتهاد في برها والإحسان إليها، والوالد عندما يتكلم بمثل هذه الأمور -إذا كنا غير مقتنعين- فمن الضروري أن نحسن الاستماع، وأن نبستم، وأن نتعامل مع الكلام الذي نسمعه بأجمل صورة، وبعد ذلك نفعل ما يرضي الله وما يحقق المصلحة.
فالمرفوض هو المصادمة والرفض والكلام الجارح الذي قد يؤثر على الوالدة، لكن ما دامت الوالدة تتمنى لك الخير، فاشكريها وأثني عليها، وافعلي ما يروق لك، واجتهدي في طلب العلم، فإن طلب العلم له فوائد عظيمة، وطلب العلم عندنا عبادة من أجل العبادات، بل هو أفضل من كل نافلة، فعلى الفتاة أن تتعلم الصحيح من عقيدتها ودينها وتعاملها وعبادتها لله تبارك وتعالى، ثم لها أن تطلب بعد ذلك من العلوم ما ينفع الله به هذه الأمة، شريطة أن تكون العلوم المطلوبة تناسب أنوثة المرأة، وشريطة أن تكون ميادين العمل من الميادين التي فيها خير وطاعة وبعد عن كل ما يغضب الله تبارك وتعالى.
نحن نتفهم هذه المشاعر النبيلة من الوالدة، ويبدو أنها تريد لك أن تجمعي بين الحسنيين، بين دورك كأم تسعد بعيالها وأطفالها، وبين رسالتك كمعلمة تقوم بالواجب، ولكن دائما في الميول العلمية وفي الرغبات فالحكم في ذلك هو رأي الطالب والطالبة، في أن يسعى في المجال الذي يريده، التخصص في المجال الذي يجد فيه نفسه، ولكن أيضا نريد أن تكون لك أهداف واضحة، فلابد أن تحددي الهدف والمسار العلمي الذي تريدين أن تسيري عليه، أما الوالدة فعليك أن تحسني الاستماع لها وتشكريها على أمنياتها الجميلة، وعديها بالخير، وتكلمي معها بما يرضيها، وكوني مواصلة لدراستك واجتهادك، وأثبتي لها بالتفوق أنك جديرة بأن تصعدي سلم المعالي، ولن تعدمي عند ذلك من الخالات والعمات والفاضلات من يكن عونا لك في إقناع الوالدة.
والمهم في كل مجال في التعليم هو التفوق، وليس مجرد النجاح، فالآن الناس تعلموا كثيرا، وكثير من الناس درس في الجامعات، لكن الإنسان لكي يكون رقما، لكي يكون له تأثير، لابد أن يبدع ويتخرج بتقدير عال جدا، يؤهله لمواصلة الدراسة بمراتب الشرف والمراتب العليا، حتى يحقق التفوق، هذا هو الذي ينبغي أن يكون واضحا.
لقد أعجبني وأفرحني جدا قولك أنك متيقنة من حبها وخوفها عليك، وأرجو أن تدركي أن مسألة الزواج لا تتعارض مع مسألة الدراسة، فلا مانع من أن تواصلي تعليمك، ولكن إذا جاءك صاحب الدين والخلق ووجدت في نفسك ميلا وكان مناسبا ورضيته العائلة فأرجو ألا تترددي، وعندنا نماذج كثيرة ناجحة ممن تزوجن ونجحن وسعدن في حياتهن، وجمعن الحسنيين، فإن الشهادات وحدها لا تكفي للفتاة، لأنها تحتاج إلى أن تمارس دورها التي فطرت عليه، وقد سمع الناس هتاف المرأة القائلة: (خذوا شهاداتي كلها، وأسمعوني كلمة ماما).
ولعل تفكير الوالدة ينصب على هذا الجانب، فهي تريد أن تسعد بأن ترى أطفالك وأن ترى أحفادها بين يديها، وهذا أيضا جانب مشروع وجانب من الأهمية بمكان، فمهما حصلت المرأة من شهادات ومهما حازت من نجاحات، ففي آخر المطاف هي تريد زوجا تسكن إليه ويسكن إليها، وتريد أبناء ليكونوا لها ذخرا وقرة عين لها في الدنيا والآخرة، لأن الإنسان في عالم الفتن والمنكرات والتبرج والمصائب، لابد أن يحصن نفسه بهذا التحصين الشرعي، وأن تدخل المرأة قفص الحياة الزوجية متى ما تيسر لها ذلك، فاحرصي على أن تكوني من المتميزات، وإذا جاء الرجل المناسب صاحب الدين والأخلاق فلا ننصح برفضه ولا ننصح بتفويت الفرصة، لأن من جاء اليوم قد لا يأتي غدا، وفرص الزواج ضئيلة بين النساء، وانظري حولك ستجدين في كل أسرة وفي كل بيت من فاتها قطار الزواج وأصبحن عانسات ويطلبن ولو نصف زوج.
وأرجو أن تعلمي أن أي مهنة تفعلها المرأة وتقوم بها مثل التعليم أيضا، تستطيع أن تبدع فيه وتنتج وتقدم الخير الكثير، لأن المعلم هو السبب في نجاح الأطباء والمهندسين، في نجاح الناس في كل مجالات الحياة الكبيرة والعظيمة، السبب فيها لهذا المعلم ولتلك المعلمة، لأولئك الجنود المجهولين الذين يعملون ليلا ونهارا.
وكل عمل شريف مقبول من الناحية الشرعية يشرع للإنسان أن يعمل فيه، كما أن العمل كمعلمة أو نحوها من الأعمال لا يمنع من مواصلة الدراسة، فنحن شاهدنا من الزملاء ممن كانوا يعملون كمعلمين ثم واصلوا دراستهم وحققوا سبقا وإبداعا وتفوقا، لأنهم اكتسبوا مهارات طويلة وكبيرة وخبرات عريضة من خلال تعاملهم مع الأبناء والبنات، من خلال ممارسة هذه المهنة العظيمة التي هي مهنة الأنبياء.
أكرر: لابد أن تحسني الاستماع للوالدة، وتطيبي خاطرها، وتجتهدي في برها، ولا مانع بعد ذلك أن تفعلي ما فيه المصلحة وما فيه النفع لك، وأنت من تختار مصلحتها، وتختار طريقها الذي تمشي عليه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يلهمك السداد والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.