حائرة بين عملي وأسرتي فدلوني

0 544

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله.

أود أن أشكر كل العامليين بهذا الموقع الرائع، وأوجه شكرا خاصا لكل المستشارين الذين بكلماتهم الطيبة امتلكوا قلوب الناس، وأراحوا نفوسهم المرهقة.

أنا - ولله الحمد والشكر - في نعمة من الله، ولكن عندي مشكلة تؤرقني بشكل يومي وهي: أنني قد أخسر كل تعلمته من علم بمكوثي في البيت مع أولادي، وبقائي مع زوجي في غربته، بالإضافة إلى أني فقدت السند المادي من عملي، والآن علي الاعتماد على زوجي في هذا الموضوع، وهذا يزعجني برغم عدم تقصيره.

عانيت كثيرا في الغربة وحدي، بعيدا عن الزوج والأهل؛ لأحصل على أعلى الشهادات، ووصلت إلى منصب راق، وعندما جاء دور زوجي لم أتردد في الذهاب معه إلى أي مكان رغبة في سنده، وإبعاده عن الحرام؛ لأن بلاد الغربة مليئة بالفتن، بالإضافة إلى تنشئة أولادي في عائلة متكاملة، حاولت جاهدة أن أعمل في البلد الذي انتقلنا إليه، ولكنهم لم يحترموا شهاداتي، حتى أني فكرت في العمل من غير راتب، فقط لكي لا أنسى الخبرة، فالطبيب لابد أن يمارس مهنته ليستمر، ولكن – للأسف - لم أجد العمل المناسب.

سؤالي لكم: هل أخطأت بترك عملي؟ علما أني أستطيع الرجوع إليه في أي وقت، ولكني لا أملك الشجاعة لترك زوجي والعيش من دونه، فلقد جربت العيش وحدي مع ابني في الغربة، ولكني سأعمل حتما بنصحكم؛ لأني على ثقة بكم، بعد ثقتي بالله، ولن أجد أحدا ينصحني بصدق مثلكم.

جزاكم الله خيرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ جلنار حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه.

نرحب بك - ابنتنا الطبيبة - في موقعك، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يلهمك السداد والرشاد، وأن يعينك على الخير.

ولله الحمد فهذه الاستشارة تبين أنك عاقلة، وأنك فاضلة، وقد أحسنت في متابعة الزوج، والحرص على أن تكوني معه، ونسأل الله أن يلهمك ويلهم الزوج السداد والرشاد، وأسعدني وأفرحني أنك تقولين: إن الزوج غير مقصر في القيام بواجباته، ونعتقد أن أمثالك تنتفع بهم الأمة، فاحرصي على تربية أبنائك، واحرصي على أن تكوني مع هذا الزوج، واعلمي أن المرأة قد تنال الشهادات، لكنها لا يمكن أن تجد سعادتها إلا بتحقيق الأمومة، وإلا بالعيش في رحاب زوج يكرمها ويقدرها، وأكبر ما يستثمر فيه الإنسان في هذه الحياة هو أن يخرج ذرية صالحة تذكر الإنسان بالدعاء وبالاستغفار بعد أن ندخل إلى قبورنا.

ولا يخفى عليك أن الطب وغيره من العلوم التي لا يمكن للإنسان أن يتأخر فيه إذا كان يواصل الأبحاث والدراسات، فاعتبري نفسك في بعثة علمية، وادخلي إلى المواقع الطبية، وطوري من قدراتك ومهاراتك العلمية في هذا الجانب، فلأن كنت فقدت جزء من العمل الميداني، فاعلمي أن العمل الميداني أيضا لا يخلو من روتين، ولا يخلو من تكرار التجارب، بخلاف العمل العلمي، والإنسان ينبغي أن يتكيف حسب الظروف التي معه.

وستعودين حتما مع الزوج - طال الزمان أو قصر - إلى بلدك، ونحن بحاجة إلى أمثالك من الطبيبات الفاضلات ليقمن بهذا الدور الكبير في علاج أخواتنا وبناتنا، فإننا بحاجة إلى أمثالك من الطبيبات الحريصات على الخير، الطبيبة المحبة لعملها، الحريصة على أن تنفع أمتها وتنفع نفسها بما تعلمت وبما نالت من العلوم.

لذلك ندعوك إلى أن تكوني راضية بهذا الوضع، ولا مانع من أن تكرري المحاولات، ولكن وجودك مع أطفالك مكسب كبير لهم، فاغرسي عندهم القيم الفاضلة، واعلمي أن كثيرا من الطبيبات والموظفات تتمنى أن تتاح لها مثل هذه الفرصة، تعود لترتب بيتها، تعود لتربي أبناءها، تعود لتقوم بواجباتها تجاه زوجها، ولا مانع بعد ذلك من أن تستأنف مسيرة العمل والخدمة لمجتمعها بعد أن يكبر الأطفال قليلا، أو بعد أن تتغير الظروف، فهذه تعتبرينها استراحة محاربة، تريد أن تواصل العمل، وتواصل الكفاح من أجل خدمة دينها، ومن أجل خدمة أمتها وبنات جنسها.

ولذلك أرجو أن تشغلي نفسك بالخير، واعتبري هذه الفترة فترة بعثة علمية من خلال المذاكرة، من خلال الدراسة، من خلال متابعة الجديد في عالم الطب، ولا يخفى عليك أن المؤسسات الطبية الآن لا تنفصل عن المؤسسات العلمية، بل الترقيات للأطباء والرفعة الحقيقية إنما ينالونها بقدر تطلعاتهم للجديد في عالم الطب، وهذا أعتقد أنه متاح لك بصورة كبيرة في بلاد الغرب، ومن خلال عالم النت، ومن خلال الكتب المؤلفة التي أصبحت المعرفة فيها متاحة ومشاعة تصل إلى الناس في بيوتهم، ولا يبقى بعد ذلك إلا أن يكون عند الإنسان عزيمة وإصرار وحرص على أن يطور من نفسه ومن قدراته، وأنت - إن شاء الله تعالى - من هذا النوع، ونسأل الله أن يزيدك حرصا وخيرا وثباتا.

واعلمي أن الأصل في أي امرأة هو قرارها في البيت، وأكبر مكسب هو أن تخرج بدلا من طبيبة طبيبات وأطباء من نسلها؛ لأن المرأة تخدم دينها وتخدم مجتمعها مرتين، بنفسها وبعملها، ثم بأن تربي من الصالحين والصالحات الذين ينفع الله بهم دينه وأمة النبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - .

فأنت في كل الأحوال في عمل كبير، واعلمي أن التربية تحتاج إلى شيء من التفرغ، وحتى الموظفات في الديار الإسلامية والعاملات يحتجن إلى بعض الوقت مع أطفالهن ومع أزواجهن، حتى يرتبن أمورهن ويرتبن أوراقهن، ولن يربح رجل - أو امرأة - مهما كسب في هذه الدنيا إذا خسر أسرته وأطفاله الذين هم بحاجة إليه.

وأرجو أن تعلمي أن هناك بلادا - حتى من بلاد الغرب - تكافئ المرأة التي تترك وظيفتها وتعود إلى بيتها؛ لأنهم أدركوا أن الخسائر المترتبة على غياب المرأة عن بيت زوجها وعن رعاية أبنائها أكبر من الإنجازات التي توهموها، والدخل الذي توهموه لخزائن دولهم، فهم يتكلمون بلغة الأرقام، وينصحون الآن بأن تعود المرأة إلى بيتها لتؤدي رسالتها.

كما أن الإسلام لا يمانع من عمل المرأة، خاصة مثل هذه الأعمال التي نحن بحاجة إليها – أقصد الطب – ولكن يشترط الإسلام في ذلك ألا يكون ذلك على حساب زوج، وألا يكون ذلك على حساب الأطفال والبيت؛ لأن الإنسان بذلك يخسر مرتين، لا هو نجح في عمله، ولا هو نجح في تربية أبنائه ونجح في حياته مع أهله، ويكون كالشمعة التي احترقت وأنارت للآخرين، لكنها نسيت نفسها.

فأنت الآن بهذه الاستراحة وبهذه الفترة التي أنت فيها في البيت كأنك ستوفقين - بحول الله وقوته - بين غرس القيم التربوية والقيام بهذا الواجب في البيت، بين ما ستنطلقين بعد ذلك مستقبلا وما تقدمينه من خدمات لمجتمعك، ونسأل الله أن ينفع بك وبأمثالك، وأن يلهمنا وإياك السداد والثبات.

فأنت على خير، فاثبتي على ما أنت عليه، واجعلي هذه الفترة فترة زيادة معلومات، وفترة إقبال على الأبناء وتربيتهم؛ فإن الأطفال بحاجة إلى جرعة من الاهتمام، ومن اللمسات، ومن الرعاية، ومن التطوير لمهاراتهم الحركية، ومهاراتهم العلمية، وقدراتهم العقلية، وهذا كله لا يتأتى إلا بوجود الأم المثقفة – مثلك – إلى جوار أبنائها، نسأل الله أن يلهمك السداد، وأن يردكم إلى ديار المسلمين ردا جميلا غانمين سالمين، هو ولي ذلك والقادر عليه.

مواد ذات صلة

الاستشارات