السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا طالب في المرحلة الثانوية -وبحمد الله- ممتاز في دراستي، وأريد دخول كلية الشريعة؛ لأنني مقتنع بأنه من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين, ولكن والدي وأهلي يقولون لي أن أدخل كلية أضمن بها مستقبلي المادي كالطب مثلا، ثم بعدها أدرس الشريعة، وصار والدي يضرب لي أمثلة من شيوخ كبار فعلوا هذا، ولكني أخشى إن فعلت هذا أن أنشغل به، ولا أدرس مادة الشريعة.
أشيروا علي جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ صهيب حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
شكرا لك على التواصل معنا مجددا بسؤالك هذا.
لا شك أن دراسة الشريعة أمر هام في حياتنا جميعا، فأين نذهب في ديننا وحياتنا لولا العلماء الأجلاء الذين ينيرون لنا الطريق، ويجيبون بفتواهم عن أسئلتنا التي تكاد لا تنتهي!
ومن الطبيعي أن يفكر الآباء والأمهات بمستقبل ولدهم، فقد أنجبوه وتعبوا في تربيته وتنشئته، ومن الطبيعي أيضا أن تختلف وتتنوع رؤية الناس للأمور، فأنت ترى الأمر من جانب، ووالداك يرونها من جانب آخر.
ولكن في النهاية، أنت ماذا تريد، وكيف تريد أن تعيش بقية حياتك، وما المهنة التي تريد العمل بها، وتقديم خدماتك للمجتمع والإنسانية؟
وشخصيا أعتبر أن دراسة شيء من الشريعة واجب عين على كل مسلم، وعلى الأقل ليعرف كيف يمارس عبادته وحياته، ولكن ليس دخول فرع الشريعة هو الطريق الوحيد لذلك.
ويجب أن أعترف أن حكمي شخصيا قد يكون منحازا كوني طبيبا نفسيا، وأترك لزملائي علماء الشريعة يدافعون عن موقفهم من هذا السؤال.
في هذا الموقع الرائع، ليس هناك صعوبة في تأمين من يجيب على الأسئلة الشرعية، بينما الصعوبة الكبيرة في إيجاد الأطباء الأخصائيين ليجيبوا على الأسئلة الطبية المختلفة.
والحروب والمآسي منتشرة في العالم، وليس فقط في سورية الجريحة، وهم في حاجة ماسة للأطباء وغيرهم من المتخصصين.
نحن في حاجة كبيرة لكل تخصصات الشريعة والطب والهندسة والرياضيات وعلم الفلك وغيرها، ولكن ماذا تريد أنت؟ هذا هو السؤال.
يمكنك أن تلتقي بأحد المشايخ ممن درس الشريعة وتسأله، وكذلك بطبيب، إن كان الخيار فقط بين هذين، واسمع منهما عن تجربتهما الخاصة.
شخصيا درست الطب، ومن ثم درست الطب النفسي، وخلال ذلك درست الكثير في الفكر الإسلامي والشريعة، وأفتخر أن عندي علوما عامة في الشريعة، وأنا في غاية السرور على اختياري الطب النفسي لما أجد من سعادة لا توصف عند مساعدة الناس في حل قضاياهم النفسية وغيرها.
وفقك الله لحسن الاختيار الأنسب لك، وجعلك من المتفوقين.
+++++++++++++++++++
انتهت إجابة د. مأمون مبيض استشاري الطب النفسي، وتليها إجابة د. أحمد الفرجابي مستشار الشؤون الأسرية والتربوية:
+++++++++++++++++++
نرحب بك - ابننا الكريم – في الموقع، ونشكر لك هذا التواصل، وهذا الاهتمام، ونشكر لأسرتك أيضا المتابعة والحرص والرغبة في أن يروك ناجحا في هذه الحياة، ونشكر للدكتور المبدع – الدكتور مأمون – على إجابته الجميلة، وهو نموذج لمن نفع الله تبارك وتعالى بهم، وممن عندهم أفق إسلامي، وتخصص نادر ومميز، نسأل الله أن يبارك فيهم، وفي شبابنا وفي أمتنا جميعا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا.
أرجو أن يعلم الجميع أن مسألة التخصص والميول هذه ينبغي أن يعطى فيها الطالب الفرصة، ودورنا كمجتمع وكمؤسسات هو أن نسوق لبضاعتنا، وأن نسوق لميادين النجاحات في حياتنا، وأن نبين له مآلات هذه التخصصات وهذه الأمور، ثم بعد ذلك نترك لأبنائنا فرصة الاختيار، فرصة أن يختار المجال الذي يرى فيه نفسه، وحقيقة لو تركناهم بهذه الطريقة فإننا سنجني ثمار مبدعين، فالمطلوب الآن ليس مجرد النجاح، ولكن المطلوب هو الإبداع والإتيان بجديد، وهذا لن يحدث إلا إذا درس الإنسان المواد التي يريدها والتخصصات التي يحبها، لذلك هذا جانب أرجو أن يأخذ حظه من الاهتمام.
وعلماء الإسلام هم أول من أشاروا لهذا كابن حزم - رحمة الله عليه - فإنه قال بعد أن يتعلم الإنسان ما يصحح به عقيدته وعبادته وتعامله مع الناس، قال بعد ذلك: (يطلب نوعا من العلوم تميل إليه النفس): هذه فكرة أساسية جدا في نجاح الإنسان؛ لأن ميل النفس دليل على أن الله ميز هذه النفس بالدراسة في هذا الجانب، وهذا ما نتمنى أن يتفهمه الآباء والأمهات والأسر والموجهين دائما، فنحن بإمكاننا أن نعطي موجهات، أن نعرض طبيعة كل وظيفة، أن نبين للمجتمع حاجة الأمة إلى الوظائف المعينة بحاجة ملحة حتى نسد هذه الثغرات؛ لأنه واجب، وفروض الكفايات أيضا لا بد أن تقوم بها الأمة وإلا أثمت، فنحن بحاجة إلى أطباء مسلمين، ومهندسين مسلمين، وفي كل التخصصات، حتى لا نحتاج إلى غيرنا ممن هم على غير ملتنا، وممن لا يؤتمنون على بعض الأمور الخاصة بنا.
ولذلك الأمة لا بد أن توفر تخصصات في كل المجالات.
ولست أدري: هل أنت عندك (مثلا) الميل إلى الجانب الشرعي فقط؟ أم أيضا تميل إلى الطب ومجالات أخرى؟ لأن كثيرا من شبابنا -ولله الحمد- (وبناتنا) عندهم ميل للعلوم الشرعية، لكن لو تحولنا جميعا إلى علماء شريعة فمن لطبنا؟ من لأبداننا؟ من لحياتنا؟ من لاقتصادنا؟ من لمؤسساتنا؟ من لشركاتنا؟ ومن لمصانعنا؟ ولذلك لا بد أن تسد هذه الثغرات.
ومن هنا أنا (حقيقة) تعجبني فكرة أن يحرص الإنسان على أن يقدم في مجال يميل إليه، لكن يكون مجالا تخصصيا دقيقا، وبعد ذلك يدرس العلوم الشرعية ويتبحر فيها، وهناك ناجحون، هناك الشيخ إسماعيل المقدم، هذا طبيب، وعندنا الشيخ الزنداني صيدلي، وعندنا الشيخ محمد صالح المنجد، هذا مهندس، فهؤلاء برزوا في مجالاتهم، وبرزوا أيضا في جانب العلوم الشرعية، فالإنسان يستطيع أن يجمع بين الأمرين، ولكن في النهاية نحن نقرر أن المسألة متروكة لأبنائنا، فإذا استطعت – أيها الابن الكريم – أن تجمع كما جمع هؤلاء الفضلاء فتدرس الطب، وفيه فوائد كثيرة، فهو علاج للأبدان، وفيه نفع كبير للأمة، والأمة بحاجة إليه، واستطعت مع ذلك أن تتعلم العلوم الشرعية، وتتبحر فيها، أولا لتصحح طاعتك لله، ولتصوب أيضا مسيرة الطب، فإن هذه الوظيفة وهذه التقسيمات لم تكن موجودة بهذه الدرجة في مجتمعاتنا، فقد كان الطبيب (الرازي) يدرس الطب والتفسير، وعلوم القرآن، والسيرة النبوية، وكان الإمام (الكندي) يدرس العلوم – مسألة المسطرة – ويدرس التوحيد، ويدرس أيضا سيرة النبي عليه صلاة الله وسلامه – وهكذا كان هؤلاء العلماء لهم علاقة وثيقة جدا بعلوم الشريعة.
فإذا كنت أنت تستطيع أن تفعل هذا، فنحن نرى أن تدرس تلبية لرغبة والدك، تدرس الطب، وبعد ذلك تتبحر في هذه العلوم، حتى العلوم الشرعية تأخذ منها معلومات مفيدة، وأنت -ولله الحمد- من أمثالك ممن يرغبون في دراسة الشريعة فيهم الخير الكثير، لكن الأمة بحاجة إلى كل هذه التخصصات كما أشرنا، ونتمنى أن تستخير الله أيضا، فإن الإنسان إذا احتار في أمر، فإنه يصلي صلاة الاستخارة، ولأهميتها فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم – يعلمها لأصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن – عليه صلاة الله وسلامه – والاستخارة هي طلب الدلالة إلى الخير ممن بيده الخير.
فتأمل هذه الأمور، وانظر للعواقب، واتخذ قرارك بارتياح، وحاول أن تستشير الأساتذة الذين درست على أيديهم، فهم أعلم بقدراتك وميولك، وأعلم بالمجالات التي يمكن أن تبدع فيها، وبعد ذلك من حقك أن تختار ما تريد، وإذا اخترت خلاف ما يريده الوالد، فإن هذا لا يعتبر من العقوق، ولكن عليك أن تسترضي الوالد تطيب خاطره وتجتهد في بره، ونسأل الله تبارك وتعالى لك التوفيق والسداد.