السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أنا شاب أبلغ من العمر تسعة عشر عاما مشكلتي صعبة، وأخاف أن أكون قد كفرت، وأن الله سيعاقبني، قصتي كالآتي:
هداني الله - وله الحمد كله - فأقلعت عن جميع الذنوب التي كنت أرتكبها، وتركت كل شيء وتبت إلى الله، ولم تكن الأمور سهلة في البداية، ولكن مع الوقت تغلبت على نفسي، وارتبط قلبي بالمساجد، وكنت محافظا على الصلاة - والحمد لله - وما زلت أصليها في وقتها، ووجدت ما كنت أبحث عنه: تلك الراحة، وتلك الفرحة ... ووجدت الخشوع، وكنت أظن أن تلك الحالة ستستمر، لكن - مع الأسف - بعدما وصلت إلى تلك المرحلة بقليل زال عني كل شيء في لحظة، فتغيرت حياتي، وفقدت الخشوع والثقة في نفسي، وحاولت قدر المستطاع العودة إلى ما كنت فيه ولكن دون جدوى.
وبعد دخول شهر رمضان اشتدت حالتي وأصبحت أصعب وأخطر، وفقدت تركيزي في الصلاة، وأصبحت أعيش في ضيق وخوف، ورغم ذلك كانت تعود حالتي عادية في بعض الأحيان، وأقول في نفسي: الآن سيعود كل شيء كما كان، ولم يحدث ذلك - للأسف - بل بعد ذلك أصبحت أقول ما لا يعقل على الله، ولم يكن مجرد وسواس - كما كنت أظن - بل أصبحت أشعر أنني أقول ذلك، وأصبحت أقول تلك الأشياء حقا - سواء أثناء صلاتي أو خارج الصلاة - كما أنني أصبحت أستيقظ في الليل وأقول أشياء في ظني أنها آيات من القرآن، وهي ليست من القرآن، بل أقوال تصدر عني دون إرادة، كل هذا أدى بي إلى ترك صلاة التراويح؛ لأني بالإضافة إلى ما ذكرت أصبحت أراقب الناس في المسجد، وأقول ما لا يعقل عنهم في بعض الأحيان.
والله إني قد تعبت من هذه الحالة، وما يخيفني هو أن هذه المشكلة تؤدي بي إلى ترك الصلاة - أسأل الله أن يجعلكم سببا في علاجي - وهل كل هذا يمكن أن يكون سببه إقلاعي عن كل شيء دفعة واحدة؟ وهل كان علي أن أوقف بعض الأمور تدريجيا؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حميد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:
نحن سعداء جدا أن نستقبل رسالتك هذه في إسلام ويب، وأنا سعيد جدا أن أعرف أنك قد أقلعت عن كل شيء، أقلعت عن الذنوب، وأقول لك: إن إقلاعك عنها دفعة واحدة هو الشيء الوحيد، وهو الشيء الذي يجب أن تهنئك نفسك عليه، ولا تدع مجالا للشيطان ليسوق لك الأمور بطريقة أخرى أو يشكك في توبتك وفي الطريقة التي وصلت إليها.
أيها الفاضل الكريم: الذي تعاني منه هي وساوس قهرية - لا شك في ذلك - والإنسان تأتيه هذه الوساوس، وقد تلاحظ أن الإخوة الذين أدركوا أهمية التوبة وأقلعوا عن الذنوب والمعاصي تأتيهم في بعض الأحيان بعض الشكوك ذات الطابع الوسواسي، وهذا لا شك أنه تدخل من الشيطان – عليه لعنة الله -.
فيا أيها الفاضل الكريم: كل الذي بك هو وسواس قهري، أفكار وسواسية سخيفة محبطة، وإن أتتك في الصلاة أو خارج الصلاة أو في أي وقت وفي أي زمان فهي وسواس, وليس أكثر من ذلك، حتى مراقبتك للناس في المسجد هي ذات طابع وسواسي.
الوساوس من حيلها في بعض الأحيان أن تقنع صاحبها أنها ليست وساوس، إنما هي حقيقة، وهذا هو الذي استخلصته أنا من محتوى رسالتك، فأؤكد لك أنها وساوس، وساوس قهرية، وأؤكد لك أنها سوف تزول - بإذن الله تعالى - لأن الوساوس أصبح علاجها الآن متاحا، وأصبح علاجها متوفرا، والعلاج يتكون من:
أولا: أن تفهم حالتك، ونحن حريصون جدا أن تصلك هذه الرسالة، فإن الذي بك ليس ضعفا في إيمانك، وليس اهتزازا في شخصيتك، وليس شكوكا ظنانية مرضية، إنما هو وسواس قهري، وأفكار ملحة سخيفة فرضت نفسها عليك، وبعد ذلك دخلت في الكثير من التأويلات الوسواسية من خلال ما نسميه بالحوار الوسواسي؛ لأنك حاولت أن تقنع نفسك بأن ما يدور في خلدك ليس صحيحا، وهكذا أصبحت الوساوس تتشعب وتتضخم حتى جعلتك فيما أنت عليه الآن من افتقاد الخشوع ومن ضعف التركيز في الصلاة، ومن المسائلة الذاتية وجلد الذات: هل عملك يقبل؟ هل هو ليس مقبولا؟ ما الذي حدث لك؟ لماذا أنت في هذا الوضع؟ هل لأنك أقلعت عن المعاصي والذنوب مرة واحدة؟ ... هذه كلها أفكار مرتبطة بالوساوس.
أيها الفاضل الكريم: أنت على المحجة البيضاء - إن شاء الله تعالى - وهذه مكافئة نفسية عظيمة.
أنا كنت أفضل أن تذهب إلى طبيب نفسي، فهذا جيد، وحالتك تستحق المتابعة، لكن إذا كان ليس بالسهل فأقول لك: اذهب إلى الصيدلية واحصل على دواء يسمى علميا (سيرترالين Sertraline) ويسمى تجاريا (زولفت Zoloft) و(لوسترال Lustral)، وربما يوجد في الجزائر تحت مسميات تجارية أخرى، وأنا أعرف من إخوة في الجزائر أنه متوفر.
تبدأ بجرعة نصف حبة – أي خمسة وعشرين مليجراما؛ لأن الحبة تحتوي على خمسين مليجراما – تناول هذه الجرعة الصغيرة ليلا لمدة أسبوعين، بعد ذلك اجعلها حبة كاملة، واستمر عليها لمدة شهر، ثم اجعل الجرعة حبتين ليلا – أي مائة مليجرام – وهذه هي الجرعة المطلوبة في حالتك، واستمر عليها مدة أربعة أشهر، ثم اجعلها حبة واحدة يوميا لمدة ستة أشهر، ثم نصف حبة يوميا لمدة شهر، ثم نصف حبة يوما بعد يوم لمدة شهر آخر, وهذا الدواء هو دواء أساسي.
وهنالك دواء إضافي مساند ومساعد يسمى (ريسيبيريدون Risperidone)، أريدك أن تتناوله بجرعة واحد مليجرام فقط، تناوله ليلا لمدة شهرين، ثم توقف عنه، لكن استمر على السيرترالين بنفس الطريقة التي ذكرتها لك، وهذه الأدوية سليمة فعالة غير إدمانية.
الدواء فقط ربما يؤدي إلى زيادة بسيطة في الوزن، وهنا يجب أن تتحكم في نظامك الغذائي، إذا كنت متخوفا من السمنة, هذا هو خط العلاج الأول، وبعد انقضاء ستة إلى ثمانية أسابيع من بداية العلاج الدوائي سوف تحس أن حدة هذه الوساوس قد خفت قليلا، لكن لا زالت موجودة، فتقوم أنت هنا بتحقيرها، ورفضها، وتجاهلها، وعدم مناقشتها، واستبدالها بفكرة مخالفة، فحين يأتيك الوسواس قل له: (أنت وسواس قبيح، عليك لعنة الله، لن أناقشك) واحرص أن تكون مع الجماعة في المسجد، واحرص أن تستفيد من الفراغ، بل لا أريد لحياتك أن يكون فيها فراغ زمني ولا فراغ ذهني أو فكري، واجتهد في دراستك، وتواصل اجتماعيا، ومارس الرياضة، وكن بارا بوالديك...
هذا كله علاجات، وعلاجات مفيدة جدا، وحقيقة أود أن أتابع معك، وحبذا لو تمكنت وراسلتني بعد شهرين من بداية العلاج الدوائي حتى نعرف التطور الذي حدث في حالتك، وأنا متفائل جدا أن الأمور سوف تكون إيجابية - بإذن الله تعالى -.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرا، ونسأل الله لك الشفاء والعافية, والتوفيق والسداد.
-------------------------------------
انتهت إجابة الدكتور محمد عبد العليم ... استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان وتليه إجابة الشيخ/ أحمد الفودعي ... مستشار الشؤون الأسرية والتربوية
----------------------------------
مرحبا بك - أيها الحبيب - في استشارات إسلام ويب، نسأل الله تعالى العلي العظيم رب العرش العظيم أن يمن عليك بالشفاء والعافية، وأن يذهب عنك ما تعانيه وتجده.
نحن نشكر لك تواصلك معنا - أيها الحبيب - ونتمنى أن يكون فيما نقدمه لك عونا لك - بإذن الله تعالى - على الخلاص من هذه الحالة التي تعانيها، سأتولى أنا بيان الجانب الشرعي فيما يتعلق بحالتك، كما تولى الطبيب الدكتور محمد - جزاه الله خيرا - بيان ما ينفعك من الناحية الطبية.
أما من الناحية الشرعية فاعلم - أيها الحبيب - أنك على إيمانك وإسلامك، وأن هذه الوساوس أو تلك الكلمات التي تجري على لسانك من غير إرادة منك لها لا تضر ولا تؤثر في إيمانك، فكراهتك لهذه الوساوس وبغضك لها وخوفك منها دليل واضح على وجود الإيمان في قلبك، إذ لولا وجود الإيمان في القلب لما انزعجت كل هذا الانزعاج من هذه الوسوسة؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم كراهة الموسوس بما يريد الشيطان أن يقذفه في قلبه جعل ذلك دليلا على وجود الإيمان في القلب، فقال لمن شكى إليه حالة قريبة من هذه، قال: (ذاك صريح الإيمان).
ثم اعلم - أيها الحبيب - أن هذه الوساوس قد تكون بسبب اختلال صحي بجسدك، وقد تكون بسبب تعرض الشيطان لك, ومحاولة صدك عن سبيل الله، فإنه يطمع في ذلك, ويجاهد للوصول إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن شكى إليه وسوسة في صدره، قال له: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) بمعنى أنه لم يقدر على إضلال الإنسان وصده عن سبيل الله، فرجع يكيد له بأنواع الوساوس.
وعلى كل تقدير فإن هذه الوساوس لا تضرك ولا تؤثر عليك، فثق بالله تعالى، ونحن نوصيك وننصحك باتخاذ المنهاج النبوي طريقا لك في مدافعة هذه الوساوس عن نفسك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خص دواءها بدواءين عظيمين، ونحن على ثقة تامة أنك إذا أخذت بهما وجاهدت نفسك على العمل بهما فإن الله عز وجل سيذهب عنك ما تجده من هذه الوساوس وآثارها.
الدواء الأول: قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (فليستعذ بالله)، بمعنى أن من عرضت له هذه الوساوس فعليه أن يلجأ إلى الله تعالى أول ما يلجأ، فيدفع عن نفسه هذه الوسوسة بالاحتماء بالله, وسؤاله الحماية فيقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ويسأل ربه جاهدا أن يعينه ويخلصه منها.
والدواء الثاني قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ولينته)، بمعنى أن يصرف نفسه عن هذه الوساوس ولا يسترسل معها، فلا يفكر في تفاصيلها وجزئياتها، فإذا فعل هذا فصرف نفسه عنها وشغل نفسه بغيرها وانتهى فإنها ستذهب عنه عن قريب - بإذن الله تعالى - .
نحن على ثقة تامة - أيها الحبيب - من أنك في طريقك - بإذن الله تعالى - إلى العافية، وأنك في طريقك للشفاء، فحسن بالله تعالى الظن، وتوكل عليه، وثق بأنه بجانبك، وأنه يجيب دعواتك، وأنه سيؤجرك ويثيبك على ما تبذله من جهد في سبيل التخلص مما أنت فيه.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمن عليك بعاجل الشفاء.