السؤال
السلام عليكم.
أنا إنسانة كثيرة الأخطاء من الصغر، منذ كان عمري أربع سنوات وأنا مداومة على الأخطاء في كل أفعالي، مما أدى إلى فشلي في جميع نواحي حياتي، منها: الناحية الدراسية، والاجتماعية، والنفسية، حتى فشلت في تكوين علاقة صحيحة مع ربي، حيث أني ضعيفة من الناحية الدينية، والعبادات، ولا ألجأ إلى الله – تعالى – إلا في المحن، وغير ذلك فأنا بعيدة عنه.
الكثير من أخطائي لا تغتفر، ومنها خطأ بدر مني قبل ثلاث سنوات، لا أستطيع أن أغفر لنفسي، ولا أقدر أن أنساه، ويخالجني شعور أن الناس مطلعون عليه ويعرفونه، رغم يقيني بعدم إطلاع أي مخلوق عليه.
بسبب هذه المخاوف والشعور بتأنيب الضمير، أصبت باكتئاب حاد، مما جعلني أعاني قلة النوم، والشحوب، ومحادثة النفس باستمرار.
بدأت في أخذ الأدوية بإفراط في محاولة للانتحار، فلم أعد راغبة بالحياة، خوفا من العقاب، وخوفا من مواجهة الآخرين، بسبب أخطائي في الماضي.
سؤالي: كيف يمكنني التخلص من شعور الذنب، والخوف من الماضي؟ وكيف أجعل خوفي من الله – تعالى -، وليس من نظرة الناس إلي؟
أرجوكم ساعدوني.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ش.ع حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا اتصالك. نسأل الله - جل جلاله - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يغفر ذنبك، وأن يستر عيبك، وأن يتجاوز عن سيئاتك، وأن يجعل يومك خيرا من أمسك، وأن يجعل مستقبلك خيرا من يومك، وأن يجعلك من الصالحات القانتات، ومن سعداء الدنيا والآخرة، إنه جواد كريم.
وبخصوص ما ورد برسالتك فأحب أن أقول لك بداية: من منا من البشر ليست له أخطاء؟ ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)؟ ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلقكم لتخطئوا فتتوبوا فيتوب عليكم)؟
إذا الخطأ طبيعة بشرية، وأمر جبل الله الناس عليه، إذ أنه خلقنا وأودع فينا الاستعداد لفعل الخير والشر، وترك هذا الأمر لعلم الإنسان وعقله، فإذا من الله عليه بالعلم الشرعي حجبه عن الحرام، وإذا من عليه بالعقل الوافر تحكم في تصرفاته، فتخرج أفضل ما تكون، وهذه أيضا خاضعة لمراد الله تبارك وتعالى، ولذلك الأخطاء التي وقعت فيها أمر طبيعي للإنسان كإنسان، لأنه لا عصمة لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم – .
ونعم؛ الأخطاء تتفاوت، والأخطاء مزعجة، وأنت حباك الله ذاكرة حديدية قوية، إذ أنك تذكرين أخطاء وقعت منذ الرابعة من عمرك، وهذا من النادر أن يتذكره الإنسان في الحقيقة، ولذا أقول لك - بارك الله فيك -: دعينا نتوقف عن البكاء على الأطلال، ونخطو خطوة جادة تغير واقعنا، وتصحح هذا الأمر الذي سرنا فيه تلك الفترة الطويلة، فأنت الآن تعانين من عقدة الذنب التي استحوذت عليك، وأقضت مضجعك، وأطارت النوم من عينك، ولكن يبقى لي سؤال: هل هذا سيحل المشكلة؟ الواقع أنه لن يحلها أبدا، لأن الشيطان استغل هذه الفرصة وبدأ يضغط عليك بكل ما أوتي من قوة، وبدأ يستغل هذا الوقت، وهذا الزمن، وهذا الظرف، ليفسد العلاقة بينك وبين الله – تعالى -، ويشكك في الثوابت من دينك، بدلا من أن كانت العبادة لله – تعالى -، بدأ يشعرك بأن العبادة ليست لله، وأنك منافقة، وأنك تصلين من أجل تحقيق هدف معين، وأنك تفعلين من أجل تحقيق غاية معينة، وأنك تتوبين إلى الله – تعالى - من أجل كذا، وأنك تخافين فقط من المعصية ألا يطلع الناس عليها ولكن لا تخافين الله، كل هذه وساوس ألقاها الشيطان في قلبك.
فدعينا - ابنتي الكريمة الفاضلة – نلقي هذه المسائل جانبا ونقول: إلى متى سنظل نبكي على الأطلال ولا نخطو خطوة للأمام؟ ألم تعلمي أن الله تعالى قال: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}؟ ألم تسمعي قول الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم}؟ ألم تسمعي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من تاب تاب الله عليه)؟ ألم تسمعي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الندم توبة)؟
إذا نحن أمام مبشرات كبرى في كلام الله – تعالى - وكلام النبي - عليه الصلاة والسلام – لم نعرض عنها؟ ولم لا نستفيد منها؟ ولم لا نتعامل معها تعاملا جادا يؤدي بنا إلى أن نخرج من هذا المنعطف الخطر إلى سعة رحمة الله تعالى؟
ولذا أنصحك بداية أن تتوقفي عن تأنيب الضمير، وأن تحاولي أن تخرجي من هذا بكل ما أوتيت من قوة. اجلسي الآن مع نفسك، وقولي (إني عقدت العزم على أن أتوب إلى الله تبارك وتعالى، وأن أبدأ صفحة جديدة مع الله، ابتغاء مرضاة الله تعالى) وعاهدي نفسك أولا أن تتوقفي عن الذنوب القديمة كلها تماما، ثم أن تندمي على فعلها، تعقدي العزم على ألا تعودي إليها، وثقي وتأكدي أن هذا سيحول حياتك تماما، لأن التوبة هي بداية الخير، والله تبارك وتعالى يقول: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} فالإنسان إما تائب وإما ظالم، فأنت إذا تبت الآن معناه أنك في رحمة الله تعالى حيث قال الله تعالى: {إن الله يحب التوابين} فالله يحبك. هذه النقطة الأولى.
النقطة الثانية: دعينا نفكر لماذا نتوقف عن الصلاة، والصلاة نور، والصلاة تبدد ظلمات المعاصي؟ .. أتمنى - بارك الله فيك – المحافظة على الصلاة في أوقاتها، والسنن مع الفروض، حتى وإن كنت لا تشعرين بالخشوع أو الخضوع فيها، ولكن لا بد أن تصلي.
ثالثا: عليك بالدعاء والإلحاح على الله تبارك وتعالى أن يخرجك الله تبارك وتعالى مما أنت فيه.
رابعا: عليك بالإكثار من الاستغفار حتى وإن جاء الشيطان ضحك عليك وقال (أنت تستغفرين ثم تعودين) حتى وإن كنت ستعودين في اليوم الواحد مائة مرة لا تتوقفي أبدا عن التوبة والاستغفار.
عليك بالبحث عن الصحبة الطيبة الصالحة تأخذ بيدك إلى الخير، لأن الصحبة الصالحة مهمة جدا.
لا تيأسي يا بنيتي من روح الله مطلقا، لا تيأسي من روح الله أبدا، أبدا، وإنما عليك بحسن الظن بالله – تعالى -، واعلمي أن الله - تبارك وتعالى - قال: (أنا عند ظن عبدي بي) وفي رواية: (فلا يظن عبدي بي إلا خيرا) فعليك بحسن الظن بالله - تبارك وتعالى -، ولا تنظري لسيئاتك بقدر ما تنظري إلى مقدار عفو الله – تعالى - ورحمته.
أتمنى - بارك الله فيك – أن تستعيني بعد الله - تبارك وتعالى - ببعض الأخصائيين النفسيين، تعرضي نفسك على أحد الأخصائيين، لعله أن يقدم لك بعض الحلول فيما يتعلق بموضوع الاكتئاب، وموضوع الوسواس، لأني أرى أن هناك وسواس، وأنا أطلب من إخواني – أيضا - في الموقع أن يحيلوك إلى أحد الأخصائيين النفسيين لعله أن يقدم لك وصفة – أيضا - تتعلق بمسألة تأنيب الضمير، ومسألة عقدة الذنب التي قضت مضجعك، وأفسدت عليك حياتك، لأن هذا الأمر إن زاد عن حده إنما يتحول إلى حالة مرضية تحتاج إلى علاج.
هذا وبالله التوفيق.
------------------------------------------------------------------------------
انتهت إجابة: الشيخ / موافي عزب - مستشار الشؤون الأسرية والتربوية -
تليها إجابة: د. مأمون مبيض - استشاري الطب النفسي -.
------------------------------------------------------------------------------
شكرا لك على التواصل.
إن الأسئلة التي طرحتها في آخر رسالتك هي الأسئلة التي تشغل بال الكثيرين، مثل: كيف يمكن أن أتخلص من الشعور بالذنب، والخوف من الماضي؟ وكيف أجعل خوفي من الله، وليس من نظرة الناس إلي؟
ألسنا جميعا نحتاج أن نعمل على أنفسنا لتحقيق مثل هذه الصفات؟ كيف نقوي الإيمان في قلوبنا، وبحيث نخشى الله أكثر من خشيتنا الناس؟
فهذه الأمور هي محور حياتنا جميعا، نسدد في مكان، ونقارب في آخر، ننجح مرة، ونفشل أخرى، والأمل أن يستمر هذا حتى نلقى الله – تعالى - وهو عنا راض.
والله – تعالى - يعرف طبيعتنا البشرية، ويعرف ضعفنا، ويعرف أننا سنذنب بشكل أو آخر، ولذلك فتح لنا باب التوبة – وباستمرار -، حتى نغرر أو حتى تشرق الشمس من مغربها.
من الناحية النفسية، ربما يحمل أخطاءك في صغرك من كان مسؤولا أن ينشئك النشأة السليمة، وهذا حال الكثير من الصغار، فمن مهمة الوالدين حسن التربية، والنشأة، فلو نشأت على تربية مختلفة هل كنت ستخطئين هذه الأخطاء التي تتكلمين عنها في سؤالك؟
طبعا ليس هناك من ذنب لا يغفره الله – تعالى -، إن صدقت التوبة، إلا الكفر، وحتى هذا الكفر، يمكن للإنسان أن يعود عنه، ويجدد إيمانه بالله – تعالى -.
المشكلة التي يمكن أن يقع فيها أي الإنسان هي أنه إن أذنب وأخطأ، أن يسد على نفسه باب الإنابة، والعودة إلى الله – تعالى -، فلا يجد نفسه إلا متنقلا من خطأ لآخر، ولذلك لا يجوز اليأس في إسلامنا " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ".
وأعتقد أن في هذا ما يكفي ليعينك على تجاوز الحالة التي أنت فيها، فبذكائك، وفطنتك، ستعرفين كيف تجددين الصلة بالله – تعالى -، والله يفرح بتوبة عبده، عندما يعود إليه.
والأمر الآخر ، وقد ذكرت أنت هذا صراحة، وهو الإصابة بالاكتئاب، وخاصة أنك ذكرت العديد من أعراض الاكتئاب من اضطراب النوم، والنظرة السوداوية، وحديث النفس وغيرها.
وسأقول هنا شيئا قد لا تقتنعي به الآن، إلا أن الأيام ستثبت لك صحته، ولقد عاينته في ممارستي كطبيب نفسي - أكثر من عشرات المرات -، أن من يعاني من الاكتئاب لا يعود يرى، أو يذكر، إلا الأمور السلبية في حياته، وتضيق عليه الدنيا بما رحبت، ويتمنى الموت، لأنه لا يعود يرى مخرجا مما هو فيه، وهذا ما يبرر – ربما - محاولات الانتحار المتكررة عندك.
فالذي أنصح به - بالإضافة لاستعادة صلتك بالله تعالى، وبابه مفتوح على الدوام - هو أن تراجعي أقرب طبيب نفسي لديك، وتتحدثي معه، وبالتفصيل، ليحدد التشخيص، ومن ثم العلاج المناسب.
ولا تنسي أن هناك علاج للاكتئاب كغيره من الأمراض، والاضطرابات النفسية، أو غيرها.
وأرجو الله – تعالى - أن يلهمك اتباع هذه الخطوات، وأن تسيري على طريق الإصلاح.
وأنا أعتقد أن هذا ما ترغبين به، ولهذا كتبت إلينا، فأشكرك أنك وبالرغم من كل ما حدث فأنت ما زلت تتطلعين لإصلاح الحال، وعيش حياة كريمة.
وفقك الله، وقريبا نسمع أخبارك التي تسرنا - إن شاء الله -.
والله الميسر لكل خير.