السؤال
السلام عليكم ورحمة الله بركاته.
ابني منذ ولاته لم يظهر عليه أي شيء غير طبيعي حتى بلغ المرحلة المتوسطة، وبالتحديد في السنة الثالثة في الفصل الراسي الثاني.
في الصباح يستعد للذهاب للمدرسة فيأتيه ألم في المعدة، ذهبنا به إلى الطبيب، وأعطانا علاجا للمعدة ضد الديدان، ولكن بعد ذلك أصبح كلما خرج في الصباح للذهاب إلى المدرسة؛ يرجع بعدها بقليل للمنزل، ولا يذهب، وكلما سألته عن السبب، يقول: " أنا أريد أن أذهب، ولكن حينما أذهب أعود"، ثم تركناه فترة لعله يعود من تلقاء نفسه للذهاب دون ضغوط.
ثم جاءت العطلة، وقررنا السفر، ولكن ابني عند اللحظة الأخيرة رجع ولم يرد السفر، وجلس مع أبيه في المنزل، وقال بأنه ينوي الذهاب لأبناء عمته، مع العلم أن أباه كان يلازم الملحق الخارجي وهو مريض، وليس بصحة جيدة، فلم يعد في المنزل إلا هو وأبوه.
رفضت ذلك في البداية، وأصررت عليه ليذهب معنا، ولكنه أصر على البقاء، وطال غيابنا لمدة أسبوعين، ثم بدأت الدراسة من جديد، وبدأت ألاحظ عليه عدم الصلاة في المسجد، وأنه لا يغير ملابسه، وأصبح لا يهتم بنظافته، ولا يستحم، ويجلس لوحده في غرفته مع الكمبيوتر.
استمر ذلك 3 سنوات، ولم نفكر في ذلك الوقت بأنه يحتاج إلى طبيب نفسي، وكنت أتضايق بشدة وأدعو له، وصرت أحاول أن أجلس وأوضح له أنه لابد أن يجلس معنا، وأن هذا من عمل الشيطان، وأنه سوف يتحسن إذا ترك التفكير بهذا الأمر، وأخبرته أنك تخاف، وأنك تفكر بأن هناك أحدا سيقتلك أو يضرك، فقال: نعم، وأخبرته أن ذلك غير صحيح، وأن الله يحفظك، ولن يستطيع أحد أن يضرك، ثم تبدل حاله إلى الأحسن قليلا، وأصبح يغير ملابسه، ويصلي في المسجد، ولكن إذا أراد أن يذهب إلى المسجد؛ فإنه يذهب بسرعة ويأتي بسرعة، وأصبح طبيعيا تقريبا، ولكنه لم يذهب إلى المدرسة، ولم يزر حتى أبناء عمته طوال هذه السنين، ولم يختلط بالناس.
حاولنا أن نغير المدرسة من حكومية إلى أهلية، ولكنه لم يداوم سوى ثلاثة أيام، ثم قال بأنه لا يستطيع أن يكمل الدراسة، لأن الطلاب كانوا صغارا وهو أكبر منهم.
بعد سنة بدأت الأعراض تظهر عليه مرة أخرى، فأصبح لا يصلي، ولا يستحم، ولا يريد أن يسمع الأصوات العالية، وأصبح يجلس في غرفته، وإذا أراد شيئا أخبرنا به.
أصبح لا يريد أن يتحدث إلا عن مواضيع هو يختارها، ولا يأكل إلا في أواني معينة هو يختارها، ولا يأكل في الأواني والأكواب المصنوعة من الزجاج، ومؤخرا أصبح لا يغير بدلته، وإذا أخبرته أني أريد غسلها؛ يطلب مني أن أغسلها وأعطيه إياها مباشرة، ولا يلبس غيرها، حتى مفرش السرير لا يرضى أن أغيره، وإن قمت بغسله؛ فإنه يطلب مني إعادته حتى وإن كان مبلولا ولم يجف تماما، وأصبح الكلام معه صعبا، ولا يريد إطالة الحديث أحيانا، حتى مع إخوته إلا من يحب منهم.
أردت أن أقنعه بالذهاب إلى الطبيب، ولكني أخطأت حينما قلت له بأنك مريض، وتحتاج إلى علاج، فصرخ في وجهي وقال: اذهبي عني، ولا أريدك أن تكلميني.
أنا الآن في حيرة من أمري، لا أعلم كيف أقنعه بالذهاب، وأبوه لا يستطيع الذهاب به لأنه مريض، عمر ابني الآن 23 سنة.
أفيدوني جزاكم الله خير، فأنا لا أعلم لأي طبيب أذهب.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أم عبدالله حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
اطلعت على رسالتك الجيدة والواضحة بذاتها، وأسأل الله تعالى لابنك العافية والشفاء.
لا شك أن مراحل الارتقاء أو التطور المرضي عنده واضحة جدا، الأمر بدأ بما نسميه بخوف الفراق، لم يكن يكره المدرسة، لكنه كان يريد أن يكون في أمان البيت بالقرب منك أو من والده، وهذه ظاهرة معروفة، وألم المعدة هو أحد الأعراض الرئيسية التي نشاهدها في مثل هذه الحالات، وقطعا هذه الأعراض لا تأتي في أثناء إجازة الأسبوع، هذه ملاحظة معروفة -أيتها الفاضلة الكريمة-.
إذا ابنك كان لديه قلق الفراق أو الخوف من قلق الفراق، وبعد ذلك تطور الأمر إلى افتقاده للكفاءة الاجتماعية –مع احترامي الشديد له–، فأصبح يتخوف، وأصبح موسوسا، وأصبح مترددا، هذا كله ظهر عليه بشكل جلي.
الأمر الذي أردت أن أعطيه وزنا أكبر حتى أصل إلى نتيجة هو موضوع عدم اهتمامه بنظافته الشخصية، وعدم ذهابه إلى الصلاة، والتدهور الذي حدث له، والانعزال، وحتى أكون واضحا وصادقا معك -أيتها الفاضلة الكريمة-، فهذه الأعراض نشاهدها كثيرا في الأمراض الذهانية -أي الأمراض العقلية– أو الأمراض الاكتئابية الشديدة المطبقة.
أنا أكثر ميولا أن هذا الشاب –حفظه الله– بالفعل لديه مرض ذهاني يشبه الفصاميات، لكنه من الدرجة البسيطة، مع وجود المخاوف والوساوس، وهذه من وجهة نظري أصبحت ثانوية الآن، كانت هي الأساسية، وكانت بقية الاضطرابات هي الثانوية، ولكنها الآن أصبحت هذه الوساوس والمخاوف ثانوية، والحالة الذهانية البسيطة أعتقد أنها الأساسية.
قطعا الحل –يا أختي الكريمة– هو أن تذهبي إلى الطبيب النفسي، وجزاك الله خيرا أنك بذلت جهدك، ولكنه قطعا انفعل انفعالا شديدا حين عرف أنه سوف يذهب إلى طبيب نفسي، أو أنه قد نعت بأنه مريض؛ لذا أعتقد أنه يمكن أن تنتهجي أسلوبا آخر، أو دعي أحد أقربائكم من أصدقائه على وجه الخصوص يقنعه بمنهج مختلف تماما، يقول له (أنا أرى بأنك -والحمد لله بخير-، ولكن لديك شيء من الإجهاد الواضح جدا، فلماذا لا نذهب إلى الطبيب، الطبيب النفسي أو الطبيب الباطني، ونجري بعض الفحوصات)، فهذه أحد المداخل الرئيسية.
لكن يجب أن يخطر الطبيب بحالته بنفس التفاصيل التي ذكرتها لي، وذلك قبل أن يناظره الطبيب، لأن حقيقة ما ذكرته مفيد جدا ورائع جدا.
وهذا الشاب أنا أعتقد أنه سوف يستفيد كثيرا من الأدوية المضادة للذهان، وجرعة صغيرة مثلا من عقار (أولانزبين) والذي يعرف باسم (زبركسا) سوف يفيده، فعليه أن يبدأ بخمسة مليجرام ليلا، وقد يزيد نومه قليلا، لكنه دواء جيد.
كثير من الأهل يقومون بتذويب هذه الأدوية في بعض المحاليل أو الحليب ويعطوها لمرضاهم حتى تتحسن أحوالهم، هذا الأمر ليس مرفوضا من الناحية الأخلاقية، بحثناه كثيرا، لكن يجب أن يوصف من قبل الطبيب، بعد أن توضحوا للطبيب أن يحاول معه، وإذا فشلتم؛ اذهبي أنت ووالده مثلا أو أي أحد، واحكي له نفس الكلام الذي ذكرته.
رسالتك واضحة، رسالتك رائعة، رسالتك تجعل أي طبيب نفسي معقول أن يتخذ إجراء علاجيا حيال هذا الشاب، والأمل معقود -أيتها الفاضلة الكريمة–.
والآن توجد أدوية فعالة وممتازة جدا، وأنا أؤكد لك أن التدخل النفسي المبكر دائما نتائجه رائعة جدا، أما التأخير قد يؤدي إلى تفتيت شخصية الإنسان، وافتقاده الكفاءة والمهارات الاجتماعية، مما يجعل المرض مقاوما، واستجابته للعلاج قد تكون ضعيفة مهما كانت الإجراءات والتدابير العلاجية الدوائية، وكذلك التأهيلية.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرا، وأسأل الله له العافية والشفاء.