السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وجزاكم الله خيرا.
لدي مشكلة قد تعبت منها، ولم أستطع التخلص منها، فمنذ طفولتي المبكرة، وحينما بدأت أعي أحداث الرسوم المتحركة، كنت أتعلق كثيرا بنهاية الحلقة، فحينما أخلد للنوم، أبدأ بتخيل الأحداث القادمة للقصة، استمررت في ذلك حتى أصبحت لا أستطيع النوم إلا بهذه الطريقة.
وحينما وصلت من العمر 16 سنة عزمت على التغيير، وعلمت أن التخلص من أي عادة يكون باستبدالها، وقد حاولت استبدالها بالأذكار، أو مراجعة دروسي التي درستها في ذلك اليوم، لكن دون جدوى.
تطور الأمر للأسوأ، حيث بدأ خيالي ينصرف لحياكة قصص عن نفسي في المستقبل، وحينما أصبح عمري 18 سنة لم يعد هذا الخيال يتطرق إلى ذهني وقت النوم فقط، بل صار في كل وقتي طوال اليوم، واليوم عمري 27 سنة، ولا أستطيع التركيز في عملي، أو دراستي، أو حياتي.
قرأت عن هذا النوع من الخيال المفرط، وكيف يؤثر على بعض من خلايا الدماغ، وكيف أن هذه التخيلات تشغل حيزا من الذاكرة، قرأت كذلك أن علاجه هو التوقف عن التفكير، وأنه عادة يمكن السيطرة عليها، حالها حال أي عادة سلوكية أخرى، لكنني عجزت عن المحاولة، أريد أن أصلي دون تشتت ذهني، أريد أن أتحدث دون أن تطرأ هذه التخيلات علي، أريد أن أحضر المحاضرات بذهن صاف، أريد أن أقرأ بتركيز، أريد أن أعيش حياتي لا تخيلاتي، حياتي لم أعد أملكها، كلها ملك تلك التفاهات التي عجزت عن طردها من حياتي، فهل من إرشادات تعينني على الخلاص منها؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ع.س حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
شكرا لك على التواصل معنا، والكتابة إلينا بما في نفسك، ومن خلال هذه الكتابة الواضحة والمنسقة، وأكاد أجزم بقدرتك وذكاءك -ما شاء الله-، وحفظك من كل مكروه.
سبحان الله، وهل يستطيع الإنسان التوقف عن التفكير؟ لا شك أن هذا من المستحيلات، فالذي لا يفكر إنما هو ميت أو مغمى عليه، فالخيال شيء رائع، والله تعالى لم يخلقنا قادرين على هذا التخيل إلا لفائدته لنا، فكيف يمكن أن يعيش الإنسان لولا فسحة الخيال، فحقائق اليوم خيالات الأمس، وخيالات اليوم حقائق الغد، كما يقولون، ولكن وككل شيء آخر في هذه الحياة، ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
لا شك أنك في الطفولة قد احتجت لمثل هذه التخيلات، فلا شك أن هذا ساهم في تكوين شخصيتك وقدراتك التي هي عندك الآن، والجيد أيضا أنك منتبهة لضرورة التغيير كي لا تستغرقي كثيرا في أحلام اليقظة، لا شك أن طبيعة طفولتك والتربية والتعليم الذين تلقيتهما ربما يفسران زيادة ميلك إلى هذا الخيال.
وما أظنك إلا أن تعلمين بالخطوة السليمة، والتي اتخذتها من نفسك، لا أقول بقطع العلاقة مع هذه الخيالات، وإنما تغييرها لشيء آخر، والسير إلى أمر آخر في حياتك، ولكن يفضل الآن السير والنظر في طرق أخرى.
ولكن المشكلة، أنك تحرصين جدا على ترك هذه الخيالات، وأحيانا عندما نحرص كثيرا على نسيان أو تجاوز شيء ما، فإننا بهذا الحرص الشديد إنما نعزز تذكره وبقاءه في أنفسنا، فمثلا ماذا ستتخيلين إذا طلبت منك أن لا تفكري أو تتخيلي عصفورا زهري اللون؟
فلا شك أنك لا تتخيلين وتفكرين إلا بالعصفور الزهري اللون!
لا أنصح بأن تضعي لنفسك هدفا هو الامتناع الكلي عن عالم الخيال، فالأمر مستحيل أولا، ولن تستطيعيه ولو أردته، وستشعرين بالانتكاس في أقرب وقت، وكم حدث معك العديد من المرات، مما قد يؤثر سلبيا عليك وعلى نفسيتك.
من الواضح أنك قد انتبهت مؤخرا لمضار الكثير من عالم الخيال والابتعاد عن الواقع، ومما سيعينك عن الخيالات هو ملئ حياتك بالأحداث الواقعية من خلال الخروج من عزلتك في عالم الخيال، والاختلاط أكثر بالناس والواقع، ولا شك أن هذا سيتحسن مع الوقت، وسيكون هذا بفضل جهودك الخاصة، فاحرصي عليه.
وهناك احتمال أن وراء هذا الميل للخيال شيء من الهروب من الوقع أو الخجل أو الارتباك الاجتماعي، فانتبهي أن لا يدفعك هذا الخجل أو الارتباك للانسحاب من الأنشطة الاجتماعية ومن لقاء الناس، والهروب في عالم الخيال، فهذا التجنب لا يحل المشكلة، وإنما يعقـدها ولحد أنه قد يصل لدرجة الخجل الاجتماعي، والذي لا يبدو أنه موجود الآن، ولكن انتبهي لهذا.
قد تستغربين عندما أقول لك بدل الامتناع عن التخيل، أن تستغلي هذه القدرة على التخيل بمحاولة الإبداع كالتأليف والكتابة، فكم نحن في حاجة في عالمنا العربي والإسلامي إلى الكتاب المبدعين، وربما وراء القدرة على التخيل موهبة متوقدة تحاول أن تخرج للواقع، فاحرصي على رعايتها وتوجيهها.
أرجو أن يكون في هذا ما يعينك، وأن يحفظك الله ويرعاك، وينفع بك.