السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرجو عرض استشارتي على طبيب نفسي وشيخ ثقة.
أنا مبتلاة بالوسواس القهري منذ سنوات، بدأ معي بالوضوء والطهارة ثم تطور الآن إلى وسواس العقيدة، المشكلة أن نفسي تحدثني مثلا بفعل طاعة نافلة، ولكني أحيانا أرفض وبشدة أداؤها، فأخاف أن أقع بكفر الإباء والاستكبار، فأفعلها، وكذلك بالنسبة للكلام المباح الذي لا فائدة منه، فإني أحب أن أتكلم به، وقد قلت في نفسي أكثر من مرة أني لن أسمع كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"، فأنا أجد من الصعوبة بمكان أن أجعل كلامي كله خيرا أو أصمت، فماذا لو كان أحد يحدثني بكلام لا فائدة منه؟ هل أقطع كلامه؟ صرت أخاف أن أتكلم بهذا الكلام خوفا شديدا، لأني قلت أني لن أسمع كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسيكون فعلي تطبيقا لقولي، فأخاف أن أقع في الكفر، وإن تكلمت به يقع في قلبي أني استكبر على الله ورسوله بعدم طاعتي لهما بلزوم الصمت، أو قول الخير.
أصبح هذا هاجسي في أكثر العبادات، الخوف من كفر الإباء والاستكبار، لأني لا أفعل جميع الطاعات التي تحدثني نفسي بفعلها، وأرفض فعلها في قرارة نفسي وبشدة، حتى إن أجبتموني على أسئلتي، سيأتي الشيطان ويوسوس لي في أمور أخرى، لأن هذا ما يحدث معي، فلا أكاد أتخلص من وسوسة حتى أدخل في غيرها.
أخبركم أني قد تعالجت من الوسواس مرتين، حيث ذهبت لطبيبة نفسانية، ولكن حالتي لم تصل لهذا الحد، فأتحسن خلال فترة أخذ العلاج وبعدها بفترة بسيطة، ثم تعود لي الوساوس مرة أخرى.
كانت الوساوس في السابق خواطر في عقلي، ولكني الآن أشعر أني أفعلها، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل به"، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فما هو الحل؟ وقد أصبحت أفعل بعض ما أفكر فيه من الامتناع عن الانقياد لبعض الأوامر، والانتهاء عن النواهي.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أماني حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أشكر لك التواصل مع إسلام ويب، وأنا تدارست رسالتك بكل اهتمام وبكل تقدير، لأني أعرف أن الوساوس ذات الطابع الديني مؤلمة جدا لأصحابها، لأن الذين يحدث لهم الابتلاء بهذه الوساوس تجد معظمهم من أصحاب الضمائر الحية ومن أصحاب العقائد السليمة، ومن أصحاب القيم الإنسانية الرفيعة.
أيتها الفاضلة الكريمة: حدث أن قابلت طبيبة نفسية، وكانت استجابتك للعلاج جيدة، لكن يظهر أنك اعتمدت فقط على العلاج الدوائي، وهذا ليس بصحيح؛ فالعلاج السلوكي مهم جدا، وهنالك عدة أنواع من العلاج السلوكي، وأنا دائما أشجع الناس على تحقير الوسواس، ولا أميل حتى إلى كلمة تجاهل الوسواس، لأن الشيء الذي تتجاهله يعني أنك قد أعطيته قيمة، لكن الشيء الذي تحقره أفقدت قيمته منذ البداية.
فيا أيتها الفاضلة الكريمة: هذه الوساوس بالرغم من أنها ملحة ومستحوذة ومبتزة أريدك أن تواجهيها بقول صارم: (اذهب عني أيها الوسواس الحقير، أنا لن أناقشك، ولن أقوم بما تمليه علي)، سوف يلح عليك الوسواس، حقريه مرة أخرى، اعتبريه تحت أسفل قدمك. الوساوس سخيفة - أيتها الفاضلة الكريمة - خاصة حين تتحول إلى وساوس أفعال، فهي تكبل صاحبها، وتجعله ينظر للأمور بمنظار واحد، لكن الآن نعم الله علينا عظيمة، والعلاجات موجودة.
هنالك العلاج الدوائي، زائد العلاج الدوائي، زائد العلاج الاجتماعي، زائد العلاج الإسلامي، هذه الأربعة المكونات تؤخذ كما هي. أنا في كل عيادة يأتيني اثنان أو ثلاثة من مرضى الوساوس، بعضهم يتقطع ألما خاصة أن الوساوس دائما تكون حول الأمور الحساسة، والنمط الوسواسي معطل للحياة، معطل لحياة الناس تماما، يكبلهم، ولذا لا أريدك أن تتعايشي مع هذا الوسواس، العلاج يصل لمرحلة الوجوب في مثل حالتك، وسوف يؤكد لك هذا المستشار الشرعي -حفظه الله-.
بالنسبة للعلاجات السلوكية تحدثنا عنها في عمومياتها، وقطعا وساوسك متشابكة من الناحية الفكرية، لأن الله تعالى قد حباك بمعرفة بأمور دينك، فأنت سقت أدلة عظيمة في رسالتك هذه، وأنا لا أحرمك من المعرفة، لكن لا أريدك أن تكوني من الذين يحاورون الوساوس، ويحاولون أن يفصلوها ويناقشوها ويشرحوها، لا، الوسواس يغلق أمامه الباب، ويحطم، ويحقر.
أريدك الآن أن تذهبي إلى الطبيبة النفسية مرة أخرى، لأن الدواء سوف يفيدك، الدواء يثبط كثيرا من اشتعال الوسواس مما يتيح لك فرصة التطبيقات السلوكية التي تحدثنا عنها، ويجب أن تتناولي العلاج الدوائي لمدة سنتين على الأقل، الآن البحوث تدل أن كل من تأتيه الوساوس متعاقبة يجب أن نعالجها بصرامة من حيث العلاج الدوائي، ودور كيمياء الدماغ كمسبب رئيسي للوساوس أمر محسوم، وأمر الوساوس الخناسية أيضا محسوم، لأن الإنسان حين يستعيذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم وحين يذكر الله تعالى سوف يخنس الوسواس.
نعم بعض الوساوس الخناسية ربما تتحول إلى وساوس طبية، هذا اجتهاد متواضع من جانبي ومن بعض الزملاء، والشيطان قبل أن يخنس ربما يقذف قذفته الكيميائية في الدماغ، ليؤدي إلى اضطراب في المواد المعروفة بالموصلات العصبية، ومنها مادة الـ (سيروتونين Serotonin) والـ (أدرينالين adrenaline)، وهذا يحتم تناول الدواء، لأن الاضطراب الكيميائي لا يعدل إلا كيميائيا، ومن هنا أتى نفع الأدوية، فلا تحرمي نفسك من هذه النعمة العظيمة.
عقار (بروزاك Prozac) والذي يسمى علميا باسم (فلوكستين Fluoxetine) سيكون دواء رائعا، أو الـ (فافرين Faverin) والذي يعرف علميا باسم (فلوفكسمين Fluvoxamine). اذهبي إلى الطبيبة، ومدة العلاج يجب ألا تقل عن عامين.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرا، وبالله التوفيق والسداد.
--------------------------------
انتهت إجابة: د. محمد عبدالعليم - استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان-،
وتليها إجابة: د. عقيل المقطري - مستشار الشؤون الأسرية والتربوية-.
----------------------------------
فالحياة كلها ابتلاء في الخير والشر كما قال تعالى : (ونبلوكم بالشر والخير فتنة ۖ وإلينا ترجعون).
الحياة تحتاج إلى مجاهدة، وسلوك السبل الموصلة للخير ولرضوان الله، يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ۚ وإن الله لمع المحسنين).
الشيطان من ألد أعداء الإنسان، لأنه مترصد في كل طريق يريد أن يصبح الناس من حزبه، ويريد أن يكبهم في نار جهنم، ولذا فإن الشيطان قد توعد أن يبقى مستمرا على الدوام في إضلال عباد الله، فقال: (فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ۖ ولا تجد أكثرهم شاكرين) وقال: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) فرد الله عليه: (قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين).
من أعظم ما يبتلى به الإنسان الوسواس القهري، لأنه إن سلط على الإنسان أفسد عليه دينه ودنياه وآخرته، وليس ثمة علاج أنفع ولا أنجع لهذا الوسواس مثل العلاج الذي وصفه نبينا -عليه الصلاة والسلام- لمن أصيب به، بقوله: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته).
سئل ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- عن داء الوسوسة هل له دواء؟ فأجاب: له دواء نافع، وهو الإعراض عنها جملة كافية، وإن كان في النفس من التردد ما كان، فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفقون، وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين، بل وأقبح منهم، كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها.
من أجل التغلب على الوسواس الذي أصابك، عليك أن تصدقي في الالتجاء إلى الله تعالى، وتلهجي بالدعاء والذكر ليكشف عنك الضر ويدفع عنك البلاء، وليطمئن قلبك، فالله وحده هو من يكشف الضر ويرفع البلوى قال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون).
ومما يندفع به الوسواس الاستغفار: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشطيان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ (الشيطان يعدكم الفقر ويأمر كم بالفحشاء).
استمعي لجواب النبي -صلى الله عليه وسلم -حين سأله عثمان بن أبي العاص فقال: يا رسول الله : إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني).
الوسواس لا يأتي إلا لأصحاب الإيمان دون سواهم، روى مسلم وغيره عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم، واللفظ لمسلم قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: (وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان) قال النووي : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: تلك محض الإيمان. وقال: ذلك صريح الإيمان، ومعناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما هو لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا، وانتفت عنه الريبة والشكوك.
الوسواس من كيد الشيطان وكيده ضعيف كما قال تعالى: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- لما شكوا إليه ذلك قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة.
أبشري -أيتها الأخت الكريمة- فعاقبتك ستكون إلى خير، سئل الشيخ ابن عثيمين عن حالة تشبه حالتك، فأجاب رحمه الله: لن يكون لها نتائج إلا النتائج الطيبة، لأن هذه وساوس يصول بها الشيطان على المؤمنين، ليزعزع العقيدة السليمة في قلوبهم، ويوقعهم في القلق النفسي والفكري ليكدر عليهم صفو الإيمان، بل صفو الحياة إن كانوا مؤمنين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان بوساوس الكفر التي يضيق بها صدره، كما قالت الصحابة: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: "ذاك صريح الإيمان"، وفي رواية ما يتعاظم أن يتكلم به، قال "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة "، أي حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه، فهذا عظيم الجهاد، إلى أن قال: "ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم، لأنه (أي الغير) لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله تعالى" أ . هـ
وخلاصة ما ننصحك به ما يأتي:
1. الاستعاذة بالله، والانتهاء عن اتباع وساوس الشيطان كما أمر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
2. ذكر الله تعالى وضبط النفس عن التحدث والتحاور مع الوساوس.
3. الانهماك الجدي في العبادة والعمل امتثالا لأمر الله وابتغاء لمرضاته، فمتى التفت إلى العبادة التفاتا كليا بجد وواقعية نسيت الاشتغال بهذه الوساوس -إن شاء الله-.
4. كثرة اللجوء إلى الله والدعاء بمعافاتك من هذا الأمر.
5. ضرورة العمل بنصائح الاستشاري والطبيب النفساني، ولا بد من اتباع خطوات العلاج المأمور بها سواء كانت سلوكية، أو عن طريق تعاطي العقاقير.
وأسأل الله تعالى لك العافية والسلامة من كل سوء ومكروه والله الموفق.