السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا فتاة، الجميع يشهد بأخلاقي وطيبة قلبي الزائدة عن الحد، نشأت في عائلة متوسطة التدين، فلا أحد كان يدعوني للصلاة مثلا، ولكن -الحمد لله- التزمت بصلاتي، ولم أتركها أبدا؛ رغم أنني كنت أعاني من الوسوسة في الوضوء، ثم ارتديت الحجاب، رغم أن جميع من حولي من أفراد عائلتي الصغيرة والكبيرة كانوا ضد هذه الفكرة، ولكنني -والحمد لله- أصررت عليه رغم كل الكلام الذي كنت أسمعه.
غادرت منزلنا لأدرس في مدينة أخرى، كان همي الوحيد دراستي، وفقني الله وتخرجت، ووجدت عملا في المدينة ذاتها، وبعد فترة أذنبت ذنبا لن أسامح نفسي عليه أبدا، حيث أنني لا أعرف كيف بدر مني، فهو ضد كل قناعاتي وأخلاقي وتربيتي، مررت بفترة من اليأس والإحباط حتى أنني عند كل صلاة كنت أقول لنفسي ألا أستحي على نفسي، كيف لي أن أقابل الله بعد ذنبي؟ أصبحت أشعر أنني أنافق الله، وأن صلاتي غير مقبولة، وأن الله غاضب علي، ولن يسامحني مهما فعلت.
لكن -الحمد لله- اقتنعت بما أنني تبت إلى الله من الذنب، وأنني ندمت عليه كثيرا، وإن الله سيسامحني، فأنا عبدته الضعيفة، وجل من لا يخطىء، ودعوت الله كثيرا أن يسامحني، إلا أنني كلما تذكرته أشعر بتأنيب ضمير كبير، بعد ذلك أصبحت أحذر من أن أرتكب أي ذنب، وكلما صدر مني أي خطأ مهما كان بسيطا، أصبحت أعاتب نفسي كثيرا، وأقول لقد كثرت أخطائي، فكيف سيسامحني الله، وعن ماذا سيغفر لي؟ وأنني إنسانة سيئة ومنافقة، وكنت أسعى لإعادة التفاؤل إلى نفسي، وأقول: هذا ذنب كنت أرتكبه ولم أكن أعلم، -فالحمد لله- أنه جعلني أفطن هذه المرة بخطورته لأتوب منه، و لن أعيده أبدا.
أصبحت أراجع أخطائي القديمة جدا، وكنت أبحث في موقعكم وفي مواقع أخرى، أنه ليس علي شيء، ولم يكن يهدأ لي بال، ولم أتوقف عن الشعور باليأس وتأنيب الضمير، إلى أن وصل بي الأمر لبداية إصابتي بالوسواس في الوضوء، ثم الصلاة ثم الصيام، وبدأت أتعب كثيرا، ولم أستوعب فكرة هذا المرض، لأنني منذ أعوام أعاني من مرض نفسي آخر هو فقدان الشهية العصبي، كنت أعلم أنه يجب علي أن لا أستجيب لذلك الوسواس، لكن كنت أخاف بأن لا يقبل عملي، فإن لدي من الذنوب ما يكفيني.
البارحة قمت لأصلي صلاة العشاء، وتوضأت، وأعدت الصلاة عدة مرات، إلى أن بدأت أبكي، وأقول: يا ربي إن حياتي لم تعد تطاق، وشعرت بيأس كبير، وقلت في نفسي: لماذا يحصل معي أنا هكذا؟ أولا أصبت بفقدان الشهية العصبي، ثم أذنبت ذنبا كبيرا، والآن أصبت بالوسواس القهري، فأنا لم أعد أحتمل، والآن لا أستطع النوم لأنني عاتبت الله على ما أصابني، وأشعر بالندم على ما صدر في نفسي من غضب، ومن قول: من أنا كي أعاتبه، وكيف لي أن أعاتبه؟ فكل ما حصل لي هو نتيجة اختياري، وضعفي، وما علي إلا أن أرض بما قسمه الله لي.
أشعر بيأس وضيق، وكره لنفسي وحياتي، أخاف أن يكون الله غاضبا عني، و أخاف أن أحرم من تذوق حلاوة الإيمان والعبادة، والتقرب إلى الله وراحة البال.
شكرا على منحي من وقتكم لمساعدتي، وجزاكم الله كل خير.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Cyrin حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فنشكرك على تواصلك مع موقع الشبكة الإسلامية، ونسأل الله أن يهديك إلى الحق والهدى، وأن يصلح شأنك، مما يمكن أن أفهم مما ذكرت، أن لديك أمرين يحتاج إلى معالجة: القنوط من رحمة الله تعالى، والثاني الوسواس.
أما الأمر الأول: القنوط من رحمة الله تعالى:
فاعلمي أنك على خير كبير بما أنك تقعين في المعصية فيحصل منك الندم والتوبة، فما حدث من معصية فهذا قد يحصل من بني آدم، فالإنسان بطبعه قد يغفل ويستزله الشيطان الرجيم إلى الوقوع فيما حرم الله تعالى، ولقد أحسنت أنك سارعت إلى التوبة والاستغفار، وهذا هو الواجب علينا كلما أذنبنا نسارع إلى التوبة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"، رواه أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 4515.
واعلمي أن من تاب إلى الله، وكان صادقا في توبته، وندم على ما كان من الإثم، وعزم أن لا يعود إلى ذنبه، فقد تقبل الله توبته فيما مضى، ومحى عنه ذنبه، ولا يؤاخذ به -بإذن الله تعالى- لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فإذا عدت إلى الذنب فتوبي مرة أخرى، وهكذا فالله غفور رحيم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال تعالى: "إن عبدا أصاب ذنبا، وربما قال: أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت، فاغفر لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا، أو أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت -أو أصبت- آخر فاغفره، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبا، وربما قال: أصاب ذنبا، قال: قال: رب أصبت -أو قال: أذنبت- آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثلاثا، فليعمل ما شاء"، رواه البخاري برقم 7507.
واعلمي يقينا أن الله يقبل من جاء إليه تائبا، وعفو الله أعظم من كل ذنوب الإنسان مهما كانت وكثرت، قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}، [الزمر : 53]، فلا تقنطي من رحمة الله، فإن الله يقبل من جاء إليه تائبا، مصلحا من حاله، قال تعالى: {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}.
وكل ما تشكين منه أنك منافقة، أو أنك أصبت بالقلق والاضطراب، فاعلمي أن كل هذا من مداخل الشيطان الرجيم، الذي يريد أن يفتح عليك القنوط واليأس من رحمة الله، ثم الاستمرار بالذنوب والتمادي في ذلك، فأنت لست منافقة، لأن المنافق لا يتوب، ولا يشعر بذنب، وأنت لست كذلك.
_ ولكن اعلمي أيضا، أن من المعلوم أن من تاب إلى الله تعالى من ذنبه، فحتى يستمر في الطاعة ولا يعود إلى ذنبه، فعليه أن يأخذ بوسائل الثبات على الصلاح والتقى:
1) عمل الصالحات: (إن الحسنات يذهبن السيئات)، روى أحمد والترمذي عن معاذ: (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).
2) أن يستشعر قبح ذنبه وضرره في الدنيا والآخرة.
3) أن يبتعد عن مكان المعصية، وأن يترك مجالسة رفقاء السوء الذين يعينونه على المعصية، وأن يجالس الرفقة الصالحة، روى مسلم عن أبي سعيد في حديث قاتل المائة: (ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء).
4) أن يداوم على ذكر الله تعالى.
5) إتلاف الأدوات التي كان يمارس بها المعصية، أو الابتعاد عنها.
6) قراءة الآيات المخوفة للمذنبين.
7) أن يحسن الظن بالله، وليعلم أن من تاب تاب الله عليه، وقد محي ذنبه.
_ أما الأمر الثاني وهو الوسوسة: فله علاجان عام وخاص:
قال بعض الصحابة -رضي الله عنهم- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: "وقد وجدتموه؟"، قالوا: نعم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ذاك صريح الإيمان"، رواه مسلم برقم ١٢٣، وفي رواية: "سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوسوسة، قال: "تلك محض الإيمان"، رواه مسلم برقم ١3٣، وللخلاص من الوسواس:
الإكثار من الذكر، وقراءة القرآن والاستغفار، وحضور مجالس العلم، والاستمرار في الأمور النافعة، قال ابن تيمية: "والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، لأنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، ﴿إن كيد الشيطان كان ضعيفا﴾، [النساء: 76]، وكلما أراد العبد توجها إلى الله بقلبه، جاء الوسواس من أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله أراد قطع الطريق عليه".
أما العلاج الخاص للوسوسة:
فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته"، رواه البخاري برقم 3276، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا، خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله، وفي رواية: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء، من خلق الأرض؟ فيقول: الله ثم ذكر بمثله، وزاد: ورسله"، رواه مسلم برقم 1349، ويمكن أن نستخلص طريقة علاج الوسواس من هذين الحديثين وذلك بالآتي:
* قولي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم عندما يطرأ عليك الوسواس.
* ثم قولي آمنت بالله ورسوله، أو آمنت بالله ورسله.
* اتركي الاستطراد في الوسواس، فلا تلتفي لما جاء فيه من صد عن الخير، أو دعوى وجود شي ليس موجودا، أو إعادة الصلاة أكثر من مرة، فهذه الأفكار والتصرفات كلها من الوسوسة، والخلاص منها قطع التفكير فيها، وعدم الاستجابة لما يأتي منها.
قال ابن حجر الهيتمي: "للوسواس دواء نافع هو الإعراض عنه جملة، وإن كان في النفس من التردد ما كان، فإنه متى لم يلتفت لذلك، لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفقون، وأما من أصغى إليها، فإنها لا تزال تزداد به حتى تخرجه إلى حيز المجانين، بل وأقبح منهم، كما شاهدناه في كثير ممن ابتلوا بها، وأصغوا إليها وإلى شيطانها".
كان الله في عونك.