السؤال
السلام عليكم
شكرا لكم جميعا، وتقبلوا مني فائق الاحترام والتقدير.
أنا شاب لدي مشكلة أعاني منها، ولا أستطيع السيطرة عليها إلا القليل، فكلما كنت أخرج للشارع، وتصادفني بعض النساء وبعض البنات التي هن في عمري 22 سنة فما فوق، أفكر مباشرة بالزواج، وأتحمس له، لأنني عانيت من فقدان حبيبتي في السابق، بعد أن حدثت الخطوبة وتم فسخها بسبب والدي.
كلما أنظر إلى فتاة في الشارع صدفة، من دون أي حافز مني لرؤيتها إطلاقا، وأغض البصر حتى لا أؤذي نفسي، ولكن عندما تكون عيني على إحداهن، أشعر بأنها امرأة خائنة لزوجها، وقد تخون زوجها مع أخيه عند ذهاب زوجها للعمل، خصوصا إذا كانت تعيش مع عائلة.
تراودني كل تلك الأفكار، ولا أسيطر عليها أبدا، وأصبحت نظرتي مختلفة جدا، ولا أريد ذلك، لأن الظن السوء محذور، "إن بعض الظن إثم"، ويجب أن أترك الناس لرب العباد، أقسم بالله أنني أقول ذلك دائما، وأحاول السيطرة لحظات، وأتأثر بذلك سلبا لعدة شهور كاملة.
تعبت جدا من هذه الحالة، يعج في بلدي سوء الأخلاق، والخيانات الزوجية منذ عمر 22 سنة فما فوق، وتوجد قصص واقعية تثبت ذلك، مما أدى لكثرة الطلاق في البلد، وأرى ذلك بعيني في الشارع، وأسمع بأذني أشياء لا تكاد تصدق من أفعال النساء.
أتمنى أن أسيطر على تلك الأفكار التي تراودني، لكي تتغير نظرتي للفتاة، وأستطيع الزواج من فتاة محترمة، لدرجة أنني قمت أشك في حبيبتي السابقة، فكيف أتخلص من تلك الأفكار؟
ساعدوني، ولكم الشكر.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ رضوان حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أمر محمود ما أنت عليه -أخي رضوان- من مشاعر الغيرة الصادقة على أعراض الناس، وكراهيتك الشر فيهم، وحبك الخير لهم، لا سيما مع ما تراه وتسمعه في مجتمعك، من مظاهر الفسوق والتبرج والسفور والخيانات، إلا أن الواجب الشرعي والعقلي والأخلاقي -أخي رضوان غفر الله لك-، في عدم تعميم هذه التهم على الناس، فإن ذلك -ولا شك- من الغلو والمبالغة المحرمة، المخالفة لشرع الله الحنيف.
مشكلتك -أخي الفاضل- تكمن في ابتلائك بآفة (سوء الظن)، وهي آفة أخلاقية -وللأسف- سيئة، ناتجة عن عقدة نفسية مزعجة، لا تنطلق هذه الآفة عن حقائق ودلائل وبراهين, إنما عن ظنون وأوهام وتصورات فاسدة، ليس لها رصيد من دليل أو حجة أو برهان، وقد نهانا الشرع عن الاستناد في أحكامنا على الناس بغير دليل، إذ أن الحد الفاصل بين الحق والباطل هو الدليل والبرهان، كما قال تعالى: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا)، (إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين).
وقد نهى الشرع عن سوء الظن بالناس خاصة، وحرمه ورتب عليه الإثم العظيم في نصوص كثيرة، منها قول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، رواه مسلم، وأمر تعالى بالتثبت في فهم ونقل وسماع الأخبار، والجزم بالأحكام فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، وقال تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون)، فتأمل.
وعليه فإن الأصل الشرعي والعقلي هو حسن الظن بالناس، وحملهم على أحسن المحامل مالم تجد أو تعلم خلاف ذلك، وقد ورد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قوله: (احتمل لأخيك سبعين عذرا, فإن لم تجد له عذرا فقل: لعل له عذرا لا أعلمه)، وقوله أيضا: (لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوء، وأنت تجد له في الخير محملا)، ولعلك تعلم الحديث الوارد في الصحيح حين جاء رجل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فزعا، شاكا في زوجته قائلا: (ولدت امرأتي ولدا غلاما أسود)، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: هل لك من إبل؟ قال نعم، قال: هل فيها من أورق (أي رمادية بين البياض والسواد)، فقال له: فكيف ذلك؟ قال: لعله نزعها عرق (أي وراثة عن أصول قديمة)، فقال له: وولدك هذا لعله نزعه عرق، وقد تقرر في القواعد الفقهية قولهم: (اليقين لا يزول بالشك)، وقاعدة: (الأصل براءة الذمة)، فاليقين هو الأصل وهو براءة ذمة الإنسان عن أي شبهة وتهمة في دينه، أو ماله، أو عرضه، أو غيرها إلا بدليل يخرجنا عن أصل البراءة إلى سوء الظن والتهمة، وذلك باستنادها إلى أدلة قطعية كالبينة العادلة أي: كل ما يبين الحق ويوضحه كالخبر الصادق عنه بشهادة أربعة عدول مثلا، أو وثيقة صحيحة صريحة أو بالمشاهدة.
واعلم -أخي العزيز- أن من يقف أو يجلس مواقف ومجالس التهم كالاختلاط بالفساق المنحرفي، يجوز أن يساء به الظن لكن من غير اتهام بالخيانة ورمي بالفاحشة، لأنها مستوجبة لحد القذف (80 جلدة)، قال تعالى :(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أولئك هم الفاسقون* إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) كما يستوجب اللعن والعقوبة في الآخرة قال تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم).
والحكمة من النهي عن سوء الظن هي:
1) سوء الظن من شأنه أن يعمق الفرقة والنزاعات بين الأفراد والأسر والشعوب والمجتمعات، فيخلخل صفها ويقلق وحدتها وأمنها، فهو عاصفة مزلزلة تدمر العلاقات، وربما جر إلى حروب واقتتالات -والعياذ بالله-.
2) الاستسلام لهذا المرض -كما أنه موقع لصاحبه في الإثم ويدمر العلاقات الاجتماعية-، فهو يزيد في تدمير شخصية ونفسية صاحبه أولا، حتى لا يحس للحياة طعما، ويعيش العذاب النفسي والمرارة والوحشة، ويميل إلى العزلة، وتنعدم عنده الثقة بنفسه، وكراهية الناس لك، وكراهيتك لهم. وما أجمل قول الشاعر:
ما يستريح المسيء ظنا... من طول غم وما يريح.
3) حفظ أعراض الناس -السمعة والكرامة- عن السوء، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في خطبة حجة الوداع: (أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم)، رواه مسلم، وروى أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كل مسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، حسب امرىء من الشر أن يحقر (أخاه المسلم)، رواه مسلم، كما ينبغي أن تحسن الظن بعرضك، أمك وأختك أو ابنتك، فلا ترضى أن تمس أعراضهم بسوء الظن، فلا ينبغي أيضا أن ترضاه لأعراض الآخرين، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما تحب لنفسه)، متفق عليه.
4) والخلاصة أني أوصيك بالتأمل فيما سبق من النصوص المحرمة لهذه الآفة، والمرتبة عليها الإثم واللعن والعقوبة الأخروية، والمترتب عليها أيضا -كما سبق- تدمير نفسية صاحبها، وتدمير العلاقات الاجتماعية، وقد تجر صاحبها إلى المعاصي لعدم ثقته بنفسه وبالناس، وعدم توفر القدوة، وربما للانتقام من الحياة والمجتمع، لا أظن أن ما ذكرته لك هنا يخفى على مثلك، حيث ومن الملاحظ من خلال قراءة سؤالك، تحليك بالثقافة وإدراكك لمشكلتك (تعميم سوء الظن) على النساء خاصة، والحياة عامة، فإن لم تزل هذه المشكلة عنك، فإني أنصحك بمراجعة طبيب نفسي ثقة، وليس في ذلك حرج أو عيب، لما تخلفه مشكلاتنا الاجتماعية من عقد نفسيةن قد تنتقل بصاحبها من الخواطر والأحاسيس وحديث النفس، إلى مرحلة التصور، في القناعة التامة، والفكر الشيطاني، والسلوك العدواني، حتى يكون والعياذ بالله من حيث لا يشعر (مشروع طاغية).
كما أوصيك قبل ذلك بلزوم الصحبة الطيبة، وقراءة القرآن والذكر والدعاء، بأن يحفظنا ومجتمعاتنا من الأفكار المنحرفة والأخلاق السيئة، أسأل الله أن يشرح صدرك وييسر أمرك، وينير عقلك، ويزكي نفسك ويطهر قلبكن ويحصن فرجك ويفرج همك وغمك.
اللهم آمين.