السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا طالبة في كلية الهندسة، يتمنى والدي أن أكون عضوا من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة مستقبلا، و- الحمد لله- وهبني الله قليلا من الفهم، ولكنني لا أذاكر، وأضيع الوقت، خائفة من التعلق بهدف دنيوي، ثم أتسخط إن لم أحصل عليه، كأن أغضب لو وجدت درجاتي سيئة، خائفة من فقدان الشعور بالزهد، وبالوقت ذاته أريد أن أكون مصدر قوة للدين كما كان سيدنا عمر -رضي الله عنه- حينما أسلم، كان قوة شديدة للدين.
أشعر بأنني يجب أن أستغل عطايا الله وأعمل وأجتهد، لا أدري ماذا أفعل، وكيف أشد همتي وأرفع درجاتي على الرغم من القوة العلمية التي قد تكون متاحة؟ إلا أن القوة العملية عندي ضعيفة.
جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ حسنة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فمن جميل نعم الله عليك كونك طالبة في كلية وتخصص متميز, وحرص أبيك على أن تكوني في هيئة التدريس بالكلية, كما وأن من نعم الله عليك تميزك بالفهم، وحرصك على رفع مستوى ومنسوب الهمة العالية لديك, فإن اعترافك بقصور همتك يستلزم إقرارك بقدرتك على تطويرها إلى الأحسن -بإذن الله- فبارك الله فيك، ووفقك وزادك علما نافعا، وعملا صالحا، وهمة عالية، ونفسا طموحة، ونفع بك أهلك ومجتمعك وأمتك بحوله وقوته.
واعلمي أنه لا نجاح للإنسان إلا باجتماع القوتين: العلمية والعملية.
ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (..وأصدق الأسماء حارث وهمام)، ففيه التنبيه إلى العمل، وهو المشار إليه بحارث, وإلى النية وهي المشار إليه بهمام، فاجتماعهما دليل الصدق كما في الحديث الصحيح، وعليه فإن نجاحك متعلق بثقتك بنفسك، وقوة عزمك وحزمك، وتصميمك وطموحك، وإرادتك بعد الثقة بالله وتوفيقه، لقوله: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}،
فالمرء حيث يضع نفسه:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ** ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل.
لا شك أن مما يسهم في رفع الهمة والقوة العملية لديك ما حباك الله من نعمة الذكاء، والدراسة والحرص على طلب معالي الأمور الدينية، والاقتداء بالنبي وأصحابه.
من المهم إدراك أن تحصيل الدين والدنيا من الضروريات التي لابد منها، ولا غنى للفرد والمجتمع والأمة عنها, فهما أمران متلازمان لا يجوز توهم التعارض بينهما بحال أبدا؛ فقوة الدنيا لدى المسلم تعينه على قوة الدين والعكس, وحسبنا أن ستة من العشرة المبشرين بالجنة من أصحاب الثراء, منهم: أبو بكر الصديق، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم-, ولذلك كان من دعاء المؤمنين: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}، ومن دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, ودنيانا التي فيها معاشنا, وآخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, والموت راحة لنا من كل شر..)، وفي الحديث: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، ذلك لأن المال قوام الحياة بنص القرآن الكريم: {أموالكم التي جعل الله لكم قياما}، أي بأموالكم تقوم أموركم, فيمكن بالمال بر الوالدين، وصلة الأرحام، ومساعدة الفقراء والمحتاجين، وعموم مصالح الخير إذا توفرت النية الصالحة.
كما أن الفقر آفة، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ منها في أذكار صباحه ومسائه، وقرنها بالكفر في قوله: (وأعوذ بك من الفقر والكفر...), وعلق الشرع وجوب الزواج بالباءة, وهي القدرة البدنية والمالية في قوله: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج...)، ولذلك نبه -صلى الله عليه وسلم- فاطمة بنت قيس بقوله: (أما معاوية فصعلوك -أي فقير- لا مال له...)، [متفق عليه].
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ** لا بارك الله في دنيا بلا دين
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ** وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
فدم برغد وكن بالله معتصما ** ما أحسن الدين والدنيا إذا اتفقا
ولا شك أن طلب العلوم العصرية والإنسانية، ومنها علم الطب والهندسة وغيرها، من القوة المأمور بإعدادها في قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}، وصح عن الإمام الشافعي -رحمه الله- قوله: (ليس علم أفضل بعد العلم بالشرع من العلم بالطب, غير أن الروم -أي الغرب- غلبونا عليه).
ذلك لأن في علم الطب ما يعين على مصلحة حفظ النفس, وهي أعظم المصالح الكلية بعد مصلحة حفظ الدين, وقد قال تعالى: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.
فاحرصي على إكمال دراستك الجامعية، بل والدراسات العليا, وأن تحققي النجاح بل والتميز والتفوق الدراسي, واجعلي نيتك صالحة في تحقيق مصالح نفسك وأهلك ومجتمعك وأمتك, وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، فالزمي الجد والاجتهاد والمثابرة والمصابرة لله تعالى, ولا تستثقلي مشاق الدراسة والتحصيل, فمن كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة, قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
إذا ما كنت في أمر مروم ** فلا تقنع بما دون النجوم
وما نيل المطالب بالتمني ** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال ** إذا الإيمان كان لهم ركابا
ومما يسهم في رفع همتك: الدعاء الصادق، والالتجاء إلى الرب سبحانه وتعالى، {وقل رب زدني علما}.
وكذلك قراءة القرآن الكريم، والسيرة النبوية، وتراجم وسير العلماء والنبلاء، لا سيما الصالحين منهم.
لزوم الصحبة الطيبة ذوي الهمم العالية, والبعد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها، مثل: وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي، وكثرة الزيارات للأقارب والأصحاب، أو الإغراق بالجدل والخلافات إذا خلت عن الأهداف الشرعية والمصالح النافعة, وكثرة الاستمتاع بالمباحات والملهيات.
تنظيم الوقت وحسن إدارته, والحذر من آفة الكسل والفتور, ومن دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, وأعوذ بك من العجز والكسل, وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال).
استحضار نعمة الوقت والفراغ: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، [رواه البخاري], وترك التسويف.
ولا أؤخر شغل اليوم عن كسل ** إلى غد , إن يوم العاجزين غد
أسأل الله لك التوفيق والسداد وأن يلهمك الهدى والخير والصواب ويهديك سبل الرشاد.