السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا فتاة عمري 21 سنة، أدرس في الخارج على نفقة والدي، وهما يبذلان كل ما في وسعهما لتوفير سبل الراحة لي، اغتربت خارج البلاد عندما كان عمري 18 سنة، وانتظرت 3 سنوات حتى توقفت الحرب في بلادي وهدأت الأوضاع إلى حد ما، حتى استطعت رؤية أهلي، والعودة للوطن.
كنت أنتظر هذه اللحظات على مضض، وكنت أحلم طوال اليوم لأعود وأعوض أمي وأبرها، حيث لم يسبق لي أبدا برها، ولكن للأسف الشديد عندما عدت لأحضان أمي الحبيبة لم أبرها كما يجب، وكنت شخصا آخرا، عصبية، وأرفع صوتي عليها، ولم أتقبل أي شيء، لم أعد أطيق نفسي، ولا أعلم ما السبب الحقيقي وراء ذلك؟ سوى أنني كنت إنسانة سيئة، وعندما كنت أرفع صوتي على أمي، كنت أبكي، وأعاهد نفسي ألا أكررها مرة ثانية، وفي كل مرة كنت أفشل.
أنا الآن في الغربة مرة أخرى، ويكاد الألم يقتلني، ولا أستطيع التوقف عن البكاء لدرجة الشعور بالغثيان، فأنا أبكي بالساعات، ولا أحاول تضخيم الأمور، ولكن الأمر بات لا إراديا، خصوصا أن أمي مثقفة، وواعية، وطيبة جدا، ومستعدة أن تجوع لنأكل، ولا أتصور أن هنالك قلبا رقيقا حانيا علي كأمي، فكل هذا لا يجعلني أجد مبررا لعقوقي لها.
ما أرجوه الآن أن أجد طريقة أكفر بها عن ذنبي، علما أنني اعتذرت لأمي أكثر من مرة، وأوضحت لها ندمي وبكيت، وأخبرتني أنها سامحتني، وأنا أعلم ذلك، ولكنني أستشعر خيبتها مني في داخلي، فأرجو منكم توجيهي بشيء يسعد والدتي لأكفر به عن عقوقي.
جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ لوجين حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
- بارك الله فيك -أختي الفاضلة- وجزاك خيرا على حرصك على بر والدتك, واستيائك وألمك الشديد جراء الإساءة إليها رغم جميل الإحسان منها -حفظها الله وعافاها-.
- صح في الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: (رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة)، رواه مسلم.
- عقوق الوالدين -أختي العزيزة- أعظم الكبائر بعد الشرك بالله تعالى, وهو قرين له في كتاب الله سبحانه في مواضع, منها قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
- فالعقوق جحود للفضل، ونكران للجميل وهو موجب للعقوبة في الدنيا، وسبب لدخول النار, وقد أمر الله بحسن صحبتهما ولو كان الوالدان مشركين، كما في قوله سبحانه: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا).
- فما دمت تدركين خطئك وتحرصين أشد الحرص -بفضل الله عليك- على تكفير خطئك في العقوق, فاحمدي الله تعالى على توفيقه لك وإرادته لك الخير, واعلمي أن إدراكك لخطئك وحرصك على تكفير سيئة عقوقك, فإن ذلك من علامات التوبة النصوح لله تعالى, فاحرصي على الاستغفار والتوبة، وذلك بالندم على ما فات، والإقلاع عن الذنب وعدم العودة إليه وطلب العفو والمسامحة من أمك, قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار)، فإن (التوبة تجب، أي تمحو وتقضي ما قبلها)، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- قوله: (تهدم ما كان قبلها) رواه مسلم، وقوله: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، رواه ابن ماجه وحسنه الحافظ ابن حجر.
- وأحسني ظنك بالله تعالى القائل: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)، والقائل -جل شأنه-: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وأن الله هو التواب الرحيم)، فاحذري أن يداخلك اليأس والقنوط والوسوسة, فإن ذلك من سوء الظن بالله, ومخالفة لما سبق من النصوص الدالة على أن مغفرة الله أعظم، وفضله أوسع من كل ذنب عظيم، وخطأ جسيم, ولا يخفاك أن قلب الأم أرحم من أن تحمل عليك أدنى حقد مهما عظمت الإساءة، فإذا فزت برضا والديك في الدنيا فاعلمي أن الله رضي عنك في الدنيا والآخرة، فكوني على علم دائما أن والدتك لن تكرهك أبدا وأن الله يبدل سيئاتك بالتوبة حسـنات, قال تعالى بعد أن ذكر عقوبة ذنوب الشرك بالله، وقتل النفس المحرمة، وفاحشة الزنا: (إلا من تاب وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما).
- ومما يكفر السيئات، أن تحرصي على إتباعها بالحسنات بعدها بالحرص على فعل الطاعات، واجتناب المعاصي والمنكرات, ومن أحسن الطاعات أداء الصلاة في أوقاتها, ومناجاة الله تعالى بالذكر والدعاء، لقوله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين)، وفي الحديث: (اتق الله حيثما كنت, وأتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلق حسن)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن وقال تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم).
- فمن تمام التوبة والإصلاح وإتباع سيئة العقوق، أن تحفظي لوالدتك هذه الحقوق, وذلك بالقيام بالأمور التالية:
- ابذلي جهدك -وفقك الله- على برها قدر الاستطاعة, وترضيتها بالقول والفعل, وذلك بطاعتها, واحترامها, وتوقيرها, والدعاء لها, وخفض الصوت عندها, والبشاشة في وجهها, وخفض الجناح لها, وترك التأفف والتضجر عندها, والسعي في خدمتها, وتحقيق رغباتها, ومشاورتها, والإصغاء إلى حديثها, وترك المعاندة لها, وإكرام صديقها في حياتها وبعد موتها, وعدم السفر إلا بإذنها, أو مد اليد إلى الطعام قبلها, وكذا زيارتها وتقديم الهدايا لها, وشكرها على تربيتك والإحسان إليك صغيرة وكبيرة.
- أسأل الله لك التوبة الصادقة والنصوح, والقبول والتوفيق لطاعة الوالدين والبر بهما والإحسان, وأن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته، ويحفظك من وساوس الهوى والنفس والشيطان، ويعاملك بالعفو منه والمغفرة والرحمة والرضوان، ويكرمك بدخول الجنان والنجاة من النيران, والله الموفق والمستعان.