تربينا على سوء الظن بالناس وكره الرجال بسبب والدنا، فماذا نفعل؟

0 219

السؤال

السلام عليكم.

نحن أسرة مكونة من ستة أخوة وثلاث أخوات، ما زلنا في بيت والدنا رغم أن أعمارنا تتراوح بين 29 و 45 سنة، وأمنا متوفاة -رحمها الله-، ووالدنا متقاعد وعمره 75 سنة.

منذ توفيت الوالدة لم يعد له شغل سوى الدخول للمطبخ، ويتزاحم معنا على غسل الأواني، وطيلة اليوم وهو ينادي علينا للجلوس معه، وفي قرارة نفسه يكره أن نتزوج ظنا منه أنه سيبقى وحيدا، كثير الشك والظنون، لم نسمعه طوال حياتنا يمدح أو يشكر أحدا حتى والديه إلا في حالات نادرة جدا، حتى أمي -والتي توفيت منذ 7 سنوات- لم يذكرها يوما بخير، رغم أنها أفنت عمرها في خدمته، ولم نسمع قط يوما أنه لام نفسه أو قال أنا مخطئ، ودائما يقول أنه تعذب في حياته وقاسى الكثير، وهو في الحقيقة يبالغ كثيرا، بل بالعكس كان مدللا من طرف جدته وخاله الذين تربى في حضنهما، ومنذ أن توفيت أمي أصبحنا لا نستطيع استقبال صديقاتنا في المنزل، لأنه في إحدى المرات قام بطرد أعز صديقة لدي، فهو يخاف أن نلتهي عنه، ويريد أن يبقى مركز الاهتمام وكأنه طفل رضيع، وينتظر منا أن نملأ -نحن بناته العانسات- وقت فراغه بالاستماع إلى قصصه المتكررة وعلينا أن نسكت ونلبي.

أوجد فينا مجموعة من الخصال السيئة، ككره الرجال وعدم الرغبة في الزواج وكثرة اغتياب الناس والحقد عليهم، لأننا أصبحنا نعيش انطواء وعزلة شديدة عن المجتمع، ولا نخالط الناس، والأدهى أنه مباشرة بعد خروجه للمسجد نبدأ في اغتيابه وننفجر بالصراخ والرثاء على حالنا، كل يوم تقريبا، وكذلك نبدأ في اغتياب بعضنا البعض ونذكر مساوئ الناس وظلمهم لنا وكأننا ملائكة، ومؤخرا أصبحنا نصرخ في وجهه ونتأفف كثيرا من حضوره فهو لا يبرح البيت إلا للصلاة، فليس له أصدقاء وعلاقتنا بالعائلة مقطوعة، وعندما نجلس نذكر بعضنا البعض بذنوبنا، نعزم على التوبة من العقوق والغيبة وسوء الظن لكن ما نفتئ نرجع لنقترف الذنوب وربما بشكل أكبر، فكلما تقدم بنا السن كلما زادت حدة طباعنا وضاقت أخلاقنا فأصبحنا لا نحتمل الناس ونكره حالنا ووضعنا، فكل من في سننا تزوجن ولهن أكثر من طفل، وحياة مستقرة وحرية.

أصبحنا معقدات، فلا نحن نعيش دنيانا كما ينبغي ولا نحن نعمل لآخرتنا لا دينا ولا دنيا، حتى القرآن أصبحنا نختمه مرتين في السنة وصلاتنا سجود وركوع بلا إحساس فنحن نحس كأننا في سجن.

ومع ذلك أنا شخصيا مقصرة في الدعاء، تراني ملتهية في الهاتف أبحث عن إضاعة الوقت، أرجوكم أن تفيدوني بنصائحكم الغالية، جزاكم الله خيرا، وأعتذر عن الإطالة، وشكرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ قوس في السماء حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نرحب بك في الشبكة الإسلامية، ونشكرك على هذه الرسالة الواضحة بذاتها، الذي أراه أن والداكم -جزاه الله خيرا- بعد أن توفيت الوالدة حاول أن يعوضكم هذا الفقد، ويلعب دورها بالدرجة التي جعلته يزاحمكم في غسيل الأواني في المطبخ، هذه البداية وبعد ذلك تحول الأمر سلوكيا إلى نوع من النقوص أو التدحرج الوجداني المعرفي وأصبح الوالد كما ذكرت يفضل أن تكونوا دائما حوله، ويبحث عن دور الطفل الذي يبحث عن من يزوده بطاقات وجدانية تناسب مرحلته العمرية، هذه الأليات النفسية والسلوكية بعضها على مستوى العقل الإدراكي وجلها على مستوى العقل الباطني -مع احترامنا الشديد لوالدك- أنت تحدثت أن شخصيته شخصية شكوكية وظنانية، وأعتقد أنه دخل أيضا في شيئا من الاكتئاب النفسي.

بالرغم من محاولته أن يظهر بأنه بخير وطبيعي لكن مما ذكر أعتقد أن هنالك نوع من الاكتئاب النفسي المقنع، جعله يكثر من الحديث عن الناس ويسقط يرمي اللوم هنا وهناك على الآخرين، وكما ذكرت أصبح يفضل أن تكونوا حوله حتى وإن كان هذا يعني أن لا تتزوجوا، أعتقد هذا كله ناتج من الخلل المزاجي والنقوص الذي حدث له، ومحاولة استدراره بالعطف، وشخصيته ظنانية شكوكية.

أنا أرى أن الوالد سوف يستفيد كثيرا من مقابلة الطبيب النفسي، أتمنى أن يقبل الذهاب للطبيب لأجل أن يفحصه ويمكن أن تذكروا له يا والدنا نحن نلاحظ أنك غير مرتاح، أنك غير سعيد، نخاف أن يكون لديك اكتئابا نفسيا أو شيئا من هذا القبيل، لماذا لا نذهب إلى الطيبب، وبهذه الكيفية أعتقد أنه يمكن أن يقتنع، وحين يعطى أحد الأدوية المحسنة للمزاج، والأدوية التي تثبط الشكوك والظنان، فأعتقد أن الوالد سوف يتعدل سلوكيا كثيرا، وسوف يحس هو ذاته بهذا التغيير الإيجابي، ومن ثم ينعكس هذا عليكم كأسرة.

أعتقد أن هذه هي النقطة الجوهرية والمركزية التي يجب أن نركز عليها كثيرا، وبعد ذلك تأتي الأمور المتعلقة بكم أيضا أنتم عليكم مسؤولية حيال أنفسكم حيال والدكم، بره أمر لا مناص منه مهما كانت سلوكياته، وفي ذات الوقت لا أريدكم أبدا أن تجدوا لأنفسكم عذرا في موضوع التقصير في العبادات وإضاعة الوقت كما ذكرت مع التليفون وخلافه، لا بد أن يكون هنالك نوعا من الحسم والعزم والإصرار على أن تكونوا إيجابيين في كل شيء، في أفكاركم، في مشاعركم، وفي أفعالكم، وهذا أمرا ممكن جدا، الزواج والعنوسة هي كلها أمورا محسومة، نسأل الله تعالى أن يرزقكن الأزواج الصالحين، وهذا ليس ببعيد عن الله تعالى، والمهم هو أن يعالج الوالد، ومن جانبكم أيضا أن تكونوا إيجابيين وتتخلصوا من شوائبكم وسلبياتكم، هكذا تكون الحياة.
-------------------------------------------------------------
انتهت إجابة: د. محمد عبدالعليم- استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان-،
وتليها إجابة: د. عمار ناشر -مستشار الشؤون الأسرية والتربوية-.
------------------------------------------------------------
- بارك الله فيك – أختي العزيزة – وأشكر لك تواصلك وحرصك على موافقة الشرع في أمورك الدينية والاجتماعية، وهو دليل ولا شك على توفر حسن النية وخوف الله تعالى وإرادة الخير في نفسك, فأسأل الله تعالى أن يفرج همك ويشرح صدرك وييسر أمرك ويثبتنا وإياك على الدين ويهدينا صراطه المستقيم.

- فبخصوص سؤالك, فعلى الرغم من أخطاء والدك وتجاوزاته التي ذكرتها, إلا أنه لا يخفى ما يوجبه الشرع عليكم من وجوب البر به وطاعته والإحسان إليه, كما قال تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا..) فلا يخفى كيف قرنت الآية الكريمة بين حقه تعالى في التوحيد, وحق الوالدين في الإحسان إليهما, ولا يخفى أن الإحسان أعظم من العدل، ذلك أن العدل يعني المعاملة بالمثل وأما الإحسان فهو المعاملة بأحسن من المثل, ولذلك أوجب تعالى مصاحبة الوالدين بالمعروف ولو كانا مشركين بل ويجاهداننا على الشرك بالله, وذلك في قوله سبحانه: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا), مما يستلزم أمرين:

الأول: في وجوب طاعة الوالد والبر به بما يستلزم العفو عنه ومسامحته وحسن التلطف به والتودد له والتعاون معه والتفهم لظروفه الاجتماعية والنفسية.

الثاني: في عدم طاعة الوالد أو التأثر والاقتداء به فيما يخالف الشرع, لقوله: (فلا تطعهما), وقد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف), ومع إيجاب الشرع لعدم طاعة أحد في معصية الله, ولو كان الوالدين, إلا أنه سبق وجوب طاعتهما في المعروف, بل وفي كل أمر لا يخالف المعروف.

- كما والواجب عليكم ثالثا أن تعززوا الثقة بأنفسكم -بعد حسن الظن بالله- وتتحلوا بقوة الإرادة والعزم والطموح والأمل والتفاؤل في الاعتماد على أنفسكم في بناء مستقبل حياتكم بالزواج, ولزوم الصحبة الطيبة, والتحلي بمكارم الأخلاق وما يتفرع عنها من ترك سوء الظن بالناس والحقد عليهم والغيبة لهم والانطواء والعزلة عنهم؛ لما لا يخفى عليكم من تنافي هذه الأخلاق السيئة مع شريعة الإسلام الحنيف القائمة على محاسن الأخلاق؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق), وقد وصف الله نبيه بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم), ولا عذر لكم – غفر الله لكم وأصلحكم وهداكم – في توهم صعوبة أو استحالة تجنب هذه الأخلاق التي تربيتم عليها؛ ذلك لأن المسلم بعد البلوغ مكلف بالالتزام بأخلاق وقيم وتعاليم الإسلام, كما وهو مؤاخذ ومعاقب على تركها والتحلي بضدها (كل نفس بما كسب رهينة)، (ولا تزر وازرة وزرة أخرى) فالمسؤولية يوم القيامة فردية, كما قال سبحانه: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)، (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)، وقال جل جلاله: (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا).

- أوصيكم - حفظكم الله ووفقكم - بمجاهدة النفس في المحافظة على طاعة الله والأذكار وقراءة القرآن, فكما في ذلك من عظيم الثواب والأجر, ففيها ما يسهم في تحصيل الراحة النفسية والاطمئنان (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون), (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، (ومن يؤمن بالله يهد قلبه), وفي الحديث: (احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك), فاحتسبوا ثواب هذا البلاء بالصبر والشكر والإيمان والرضا, وابدؤوا حياتكم وشقوا طريقكم بثقة وأمل, وفي الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. احرص على ما ينفعك, واستعن بالله ولا تعجز) رواه مسلم.

- الحرص على اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء متحينين أوقات الإجابة, كالدعاء في جوف الليل وعند الصيام, قال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء).

- وكلي أمل في الله ثم فيكم بقدرتكم على تجاوز المشكلة والعقدة في أقرب وقت, وستجدون للعبادة لذتها, وللحياة طعمها -بإذن الله تعالى-, ثم بإرادتكم وعزيمتكم الصادقة, فالمرء – كما يقال – حيث يضع نفسه.
"وما المرء إلا حيث يضع نفسه ** ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل".

- ويمكنكم بذلك العزم والتصميم أن تجعلوا من المحنة منحة ومن البلاء نعمة, كما يصنع من الليمون الحامض شرابا حلو المذاق (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم)، (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

- ومما قد يخفف من شدة الغضب على والدكم – غفر الله له – إدراك أن وضعه المذكور غير طبيعي, وهي حالة نفسية, وعقد تراكمية, الله أعلم بأسبابها, إلا أن الواجب عليكم يتمثل في وجوب الحوار معه بحكمة في اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب والأسلوب المناسب, مع التزام الرفق والأدب والحب والرحمة في تنبيهه بخطئه بهدوء, وتذكيره بحقوقكم والتي فرط فيها عن غير قصد, مذكرين له بشكركم لأبوته ومعروفه وحرصه على الصلاة ونحوها, ويمكنكم الاستعانة – إذا لزم الأمر – بمن تأنسون منه الحكمة والحجة والمروءة, ممن يحظى عنده بالقبول والتأثير.

- ويحسن إذا لزم الأمر تشجيعه من جهة القبول عنده من الأهل أو الأصحاب أو أهل العلم بأهمية عرض والدكم نفسه على طبيب نفسي؛ لما لا يخفى من ضرورته لذلك, وإن النفوس تمرض كما تمرض الأبدان, قال تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وفي الحديث: (تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل داء إلا جعل له دواء).

أسأل الله تعالى لكم التوفيق والسداد وأن يلهمك الهدى والحكمة والصواب والبر والخير والرشاد, وأن يجعل من أمركم فرجا ومخرجا ويعينكم على ذكره وشكره وحسن عبادته ويرزقكم سعادة الدارين؛ وأن يشفي والدكم ويعافيه؛ إنه سميع عليم جواد بر رؤوف كريم غفور رحيم.

مواد ذات صلة

الاستشارات