السؤال
مرحبا.
عندما أجلس مع الأهل دائما يغتابون والدتي أمامي، وأنا صراحة لا أتجاوب معهم، فكيف بهم يغتابونها أمامي؟ إنهم يسببون لي جرحا عميقا، أصبحت أتهرب من الجلوس معهم بسبب نفاقهم هذا لأنهم لا يراعون مشاعري، فأنا أميل للوحدة بسبب هذا الكلام المتكرر، ودائما يسألونني: لماذا لا تتكلمين كأنك غير موجودة معنا؟
فأنا أكره أن يذكر أحد بسوء أمامي أيا كان، فما بالكم بوالدتي؟ وإذا سألوني فيسألونني أسئلة لا معنى لها أو أسئلة خاصة بي، فأنا لا أحب التجاوب معهم، فلذلك أحب الاعتزال لأني أرتاح نفسيا، وأنا أعيش مع عائلة كبيرة فليس لي مكان خاص بي، فلا أرتاح من كثرة دخول الناس منزلنا كل خمس دقائق؛ فلذلك نفسيتي تعبت ولا أحب أن أتحدث، وسريعة الغضب لا أحب أحدا أن يسألني بخصوصياتي، فما هو الحل؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخت الفاضلة/ H حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فنسأل الله أن يقدر لك الخير ويسدد خطاك، ويلهمنا جميعا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
فإن الغيبة من كبائر الذنوب ومن أخطر أنواع المخالفات؛ لأن المغتاب يقع في جرم مركب فيه حق للعباد وحق لرب العباد، وهذا النوع من الذنوب فيه خطورة على الإنسان؛ لأنه وإن تاب فلا بد من رد الحقوق إلى أصحابها، وطلب العفو والمسامحة، وفي ذلك حرج شديد، وربما كانت مفسدة إخبارهم أكبر، فعند ذاك نحتاج إلى أن نستغفر لمن اغتبناهم ونحاول أن نطوف على المجالس التي أسأنا فيها نسمع الناس الإحسان، ويؤسف الإنسان أن تقول: إن الغيبة أصبحت فاكهة لمجالسنا، ونسأل الله أن يلطف بنا.
ولا شك أن وجود الإنسان في جماعة له ضريبة وله ثمن، فلا بد من احتمال للأذى والصبر على سوء الأخلاق والجفاء، ولا يعني ذلك المشاركة في المعاصي أو المجاملة في الباطل، ولكن الحكمة مطلوبة خاصة إذا كان من يسيء من الأرحام.
وإذا سمع الإنسان بغيبة شخص فعليه أن يحاول ذكر محاسن المغتاب المظلوم، وينصح المسيء ويذكره بالله، أو يحاول تغيير مجرى الحديث، أو يلفت الانتباه إلى أنه لا يخلو إنسان من العيوب، والسعيد هو الذي تشغله عيوبه عن عيوب الناس، وقد قال الشاعر الحكيم:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ * * * فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك أن أبدت إليك مساوئا * * * فصنها وقل يا عين للناس أعين
وإذا لم تنفع هذه الوسائل فإن المسلم ينصرف عن المجلس وينجو بنفسه؛ لأن الله يقول: (( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ))[الأنعام:68]، وإذا لم يتمكن الإنسان من مغادرة المكان ولم يتمكن من الإنكار فعليه أن يشغل نفسه بذكر الله ويشهد الله بقلبه على كراهية المعصية، ولا بأس من أن يسمعهم استغفاره ويشعرهم بتحسره وندمه لعله يجد من يتأثر به ويستحي منه.
ولا بد أن يشعر هؤلاء بعدم رضاك عن الإساءة للوالدة، فثقي بنفسك وعبري عن رفضك بأدب وحكمة، ولا تقابلي إساءتهم بالإساءة، ولكن بالتي هي أحسن، فإن غيبتهم وإساءتهم لوالدتك لا تجيز لك مقابلة الشر بمثله، واعلمي أنهم يعطون الوالدة من حسناتهم وسوف يصبحون مفلسين يوم القيامة إذا لم يتوبوا وتعفو عنهم الوالدة، وكل من ظلموا من الناس.
وإذا قالوا لك: لماذا لا تتكلمين؟ فقولي لهم: كيف أشارككم الحديث وأنتم تجرحون مشاعري بالإساءة لأمي؟ وحاولي أن تبيني لهم أن الغيبة محرمة، وأنها سبب في قطيعة الرحم وكثير من الشرور في الدنيا، وهي -والعياذ بالله- سبب للإفلاس والخسارة في الآخرة، وإذا علم هؤلاء بعدم رضاك عن تصرفاتهم تجاه الوالدة، وبأنك لا تحبين من يتدخل في شئونك الخاصة ويكثر عليك في الأسئلة؛ فلا أظن أنهم سوف يتمادون في هذا الأمر، لكن سكوتك هو الذي يشجعهم على المضي في هذا الطريق المظلم.
وتأكدي أنه من مصلحة الجميع أن يوضع حدا لهذه الممارسات الخاطئة، ولكن بالأسلوب المناسب حتى لا تترك تراكمات وآثارا سيئة في نفسك وتكون سببا للقطيعة والهجران.
والذي يظهر من السؤال هو أنكم أسرة لها مكانتها ووضعها في العائلة، وأن الناس يترددون على منزلكم رغبة في الذي عندكم من الخير، وهذا يضاعف من الأعباء، ويحملكم الكثير من المسئوليات، وقد يجلب لكم شيئا من الحسد، فإن كل صاحب نعمة محسود، والحسد يعبر عنه صاحبه أحيانا بالغيبة والنميمة، وغير ذلك من الممارسات السلبية التي تضايق المحسود، فعليك بالعفو والصفح مع الحرص على عدم اتهام أحد بهذا المرض، ولكن إذا توقع الإنسان الشر سهل عليه تحمل النتائج المترتبة، وإذا عرف السبب بطل العجب.
ولأن الناس يدخلون منزلكم ويحتاجون إليكم؛ فأرجو أن تحمدي الله الذي جعل حاجة الناس إليكم، وتذكروا ما قاله الشاعر الحكيم:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم *** وليس كبير القوم من يحمل الحقدا
وكان مما قاله أيضا:
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى *** وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
ولا داعي للضيق والغضب، ولا تكثري من التفكير في هذه المشاكل، فإن الدنيا جبلت على الكدر والمشقة، وأظن أنكم صبرتم كثيرا ولم يبق إلا القليل.
ونوصيك بأن تتقي الله وتصبري، فإن الصبر نصف الإيمان، وما أعطي المسلم عطاءا أوسع من الصبر، ومهما كانت مرارة الصبر فإن العاقبة الحسنة والجزاء الأوفى للصابرين.
والله ولي التوفيق والسداد.