السؤال
السلام عليكم
أنا بعمر 20 سنة، عانيت من مشاكل وتفكك أسري في طفولتي، وأعدائي كثيرون من جهة الأهل والأقارب، حتى في مقاعد الدراسة الثانوية!
حاليا تخرجت من الثانوية، ولم أستطع إكمال دراستي الجامعية لعدة أسباب، منها: الإخفاق، ومنها عدم النجاح في اختبار ما قبل الجامعة.
من ناحية أهلي أنا أكرههم، وأفضل الوحدة عن الجلوس معهم أيضا لعدة أسباب، منها: حبي للهدوء، ومنها استفزازهم لي بسبب أني عنصرية، ومن ناحية الحب أنا أحب دكتوري، وأعيش قصة خيال معه، وهو بدوره تركني، وصرت غير قادرة على إخراجه من حياتي، والسبب الفراغ العاطفي والبحث المستمر عن الحب.
أنا فاقدة لثقتي بنفسي، وعندي عقد نفسية، وأفكاري مسيطرة علي منذ استيقاظي إلى وقت النوم، ولا أقدر أن أنام بسبب الخوف والقلق، وإزعاج أهلي لي.
أعيش في ضياع تام من ألم الانفصال، والمشاكل مع أهلي، والعادة السرية، وعدم قدرتي على اتخاذ القرار حتى في أبسط الأمور، مثل الاستحمام والخروج من المنزل.
صرت فاقدة للشعور بالسعادة، ودائما عصبية وحزينة، ومشاعري مضطربة، وأفكاري مشتتة.
وفكرت في الذهاب لطبيب نفسي لكني أخاف منه ومن كلام الناس، والأدوية لا أحب استخدمها لأنها مضرة للكلى.
طلباتي كالتالي:
- كيف أدرس وأشتغل وأحس بقيمة وجودي في الحياة؟ أعرف أن كل شيء رزق لكني تعبت من شفقة الناس.
- كيف أتخلص من مشاكلي وكرهي لأهلي، وعنصريتي وكرهي لكل بلد أفضل من بلدي؟
- كيف أتخلص من الفراغ العاطفي، وحبي للدكتور وأحلام اليقظة، والخيال أني معه؟!
وشكرا لكم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ مايا حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بارك الله فيك –أختي العزيزة– وأشكر لك حسن ظنك وتواصلك مع الموقع، سائلا الله تعالى لك العفو والعافية والعفة والتوفيق والنجاح والسداد وأن يلهمك الصبر والثبات والحكمة والصواب والرشاد.
أهنئك – ابنتي العزيزة – بما أنعم الله عليك، حيث يظهر من خلال رسالتك –رغم شكواك من مشكلتك– مدى ما حظيت بقسط وافر من حسن التربية الدينية والأخلاقية، الأمر الذي أسهم في حرصك على التزام الآداب والأخلاق الإسلامية والعفة وسؤالك في طلب الحل، ولاشك أن ذلك يسهم أيضا في العلاج.
بصدد زيادة رصيدك المبارك من الثقة بالنفس –حفظك الله ووفقك – فإني أوصيك بتقوى الله تعالى والاستعانة به والتوكل عليه (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) .
كما وأوصيك بالتحلي بحسن الظن بالله تعالى، وتعزيز الثقة بالنفس وقوة الإرادة، وزيادة تنمية الجوانب الإيمانية والأخلاقية وقدراتك العلمية والعملية والإيجابية، وذلك بلزوم الذكر والاستغفار وقراءة القرآن، وطلب العلم النافع والعمل الصالح، والقراءة، ومتابعة المحاضرات والبرامج النافعة والمفيدة، والانخراط في العمل الاجتماعي والدعوي والخيري، وتقوية مهاراتك الاجتماعية والرفع من مستوى إدراكك وثقافتك، وقد صح في الحديث : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) رواه مسلم، كما أن لعوامل التحلي بالشجاعة ومرور الزمن وتعزيز الثقة آثارها الطيبة في زيادة رصيدك في الثقة بالنفس وقوة الشخصية (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين).
لا تعطي للناس أهمية زائدة في تقييمك الذاتي، فالناس لا يزيدون ولا ينقصون ولا يقدمون ولا يؤخرون، وكثيرا ما يبتلى الناجحون بالحسد والغيرة وسوء الظن والفهم من الناس، والمهم حسن صلتك وعلاقتك بربك، وحسن معرفتك بذاتك، اطرحي مخاوفك جانبا، وتغلبي على شكوكك واطردي الأفكار السلبية، وصفي ذهنك وتحرري من القلق والشعور بالضعف، والإنسان –كما يقال– حيث يضع نفسه.
"وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ** ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل"
احرصي على لزوم الصحبة الصالحة والعاقلة الواعية والاستشارة لهم وقبول النصح والتوجيه منهم، والتحاور بلطف وتواضع معهم والأخذ برأيهم؛ حيث وإن ذلك يسهم في الشعور بالرضا النفسي والثقة بالذات وتكميل الجوانب الإيجابية وتشجيعك عليها، وتحاشيك للجوانب السلبية والتي لا يخلو منها الإنسان مهما بلغ من القدر والمكانة؛ فالصاحب ساحب، وفي الحديث : (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
لا أجمل وأفضل من اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء، فاسألي الله تعالى التوفيق والسداد وأن يلهمك الصبر والحكمة والهدى والنجاح والقوة والصواب والرشاد، وفقك الله وزادك من فضله.
أما بصدد (علاج مشكلة وآفة التعلق والعشق والفراغ العاطفي)، فينبغي أن تعلمي –ابنتي العزيزة– أن مجرد المحبة والإعجاب مشاعر نبيلة وجميلة، وكثيرا ما تكون مجرد نزوة عابرة وخواطر سريعة غير حقيقية، لاسيما مع كونها صادرة عن مثل مرحلتك العمرية (20 عاما)، والتي لا تخلو من تغيرات نفسية، وكونها غير مبنية على معايير شرعية أو واقعية، ولذلك فإنها سرعان ما تزول بل وتتحول إلى الضد أحيانا بعامل الوقت والتجربة والمعرفة.
إلا أنه لا يخفاك أن التعلق الزائد أمر مذموم شرعا؛ كونه من الإفراط والمبالغة الزائدة والمخالف للشرع الحنيف والعقل السليم وللفطرة السليمة والطبيعة السوية، فكيف إذا كان هذا التعلق بشاب أجنبي من غير رابط الزواج؟!
كما أنه لا يخلو غالبا من مفاسد أخلاقية واجتماعية وصحية، ومن متاعب نفسية مرهقة ومقلقة قد تودي بصاحبها إلى عواقب دنيوية ودينية سيئة -والعياذ بالله-، ومعلوم أن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فينقلب هذا الحب السوي والطبيعي إلى كارثة وأمراض نفسية ومتاعب ويخرج به الحب المشروع إلى العشق الممنوع، كما أن الله تعالى يعاقب عليه.
ذلك أن الله يغار أن يمتلئ قلب عبده بحب غيره زيادة على حب ربه سبحانه وتعالى، ولذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من تعلق بشيء عذب به)، وفي رواية: (وكل إليه)، فما تحسين به من مشاعر الهم والقلق والاكتئاب نوع من هذا العذاب.
كما يجوز أن يصدر عن الشاب الذي عشقتيه نوع إعراض عنك وخذلان، وهو نوع من العذاب الإلهي أيضا، وأما معنى قوله: (وكل إليه)، أي أن الله يكلك إلى من تعلقت به ويتخلى عنك سبحانه، فما أعظمها من خيبة وخسارة وخذلان!
أوصيك بملء وإشباع الفراغ العاطفي الفطري والطبيعي والشرعي بالمبادرة إلى الزواج ما أمكن إذا توفرت ظروفه ومناسبته، شريطة الحرص على معايير الدين والأخلاق والأمانة في شريك حياتك، حيث والزواج بنص الحديث الوارد في الصحيح: (أغض للبصر وأحصن للفرج) وفي القرآن الكريم قوله: (لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة).
شغل الوقت بلزوم الصحبة الصالحة التي تسهم في تغطية الجانب العاطفي لديك وتعزيز الجانب الإيماني والأخلاقي؛ وذلك بطلب العلم النافع والعمل الصالح ولزوم الذكر وقراءة وحفظ ومدارسة القرآن، كالالتحاق بمدارس تحفيظ القرآن الكريم، ومتابعة الدروس والمحاضرات والبرامج النافعة والماتعة والمفيدة.
ضرورة تجنب متابعة وسائل الإعلام والتواصل السلبية والسيئة كالمسلسلات والأفلام والأغاني الهابطة، والتي تسهم في الإثارة العاطفية، وربما أدت إلى الفواحش المحرمة (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا).
الاعتناء بصحتك جسديا وعاطفيا وروحيا وممارسة هواياتك المحببة، كالالتحاق بناد رياضي أو ثقافي، وأن تحيطي نفسك بالأسرة والأصدقاء، ولا أجمل من تنمية ثقافتك عبر القراءة المثمرة ونحوها.
أحسني الظن بالله تعالى، وثقي بقدرتك على تجاوز هذه الأزمة العابرة، فمن كان مع الله كان الله معه.
ضرورة مجاهدة النفس في الانشغال أو الالتفات عن هذه الخواطر الشيطانية والنفسية والعاطفية العابرة، والتركيز على دراستك وحياتك المستقبلية (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) رواه مسلم.
لا أفضل من اللجوء إلى الله تعالى والإلحاح عليه بالدعاء (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء).
أما بالنسبة لما تشكينه من ابتلائك بـ (العنصرية)، حيث تكرهين كل بلاد أفضل من بلادك، فالواجب عليك تعميق كراهيتك لهذه الآفة السيئة: العنصرية، كونها اعتراضا على حكم الله تعالى وأمره وشرعه وقدره، فالفضل والتميز عند الله والتكريم لا بالصورة والجنس واللون والبلد والعرق والنسب؛ حيث إن الإنسان ليس له اختيار فيها ولا مزية وفضل، وصح في الحديث: (كلكم بنو آدم، وآدم من تراب) ولكن بما له فيها يد واختيار ومزية، وذلك بالتقوى والإيمان والأخلاق والعمل الصالح، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وصح عند مسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، (لا فضل لعربي على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى).
كما أن المساواة بين الناس أساس قوة المجتمع، والعنصرية ليست مجرد وجهة نظر ولكنها توحش وهمجية وجريمة إنسانية، فالمسلم إنساني، يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه ويرحم الغريب والقريب والبعيد كما يرحم أهله وأولاده.
أخيرا: فإني على أمل وثقة كبيرين بقدرتك على التفوق على ذاتك ومشاعرك بإذن الله تعالى؛ لما ألمسه من خلال تعبيرك ومشاعرك وفقك الله لكل خير، وأسأله تعالى أن يفرج همك ويشرح صدرك وييسر أمرك ويرزقك التوفيق والنجاح في حياتك، والزوج الصالح والحياة السعيدة والآمنة والمطمئنة، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
والله الموفق والمستعان.