السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجزيكم خير الجزاء، وأن يبارك فيكم، وأن يجعلكم مفتاحا لكل خير، وأن يجعل جميع أعمالكم خالصة لوجهه، وأن يتقبلها منكم، اللهم آمين.
لدي بعض الأسئلة حول موضوع بر الوالدين، وهي:
1- كيف تكون الفتاة بارة ورحيمة بوالديها؟
2- كيف يكون الشاب بارا ورحيما بوالديه؟
3- كيف يتصرف الشاب أو الفتاة عندما تغضب والدتهم بسبب عدم تنفيذ أمر لا يرضي الله عز وجل؛ مثل أن تغضب الوالدة بسبب عدم تلبية طلبها بلباس حجاب على الموضة، والالتزام بالخمار، المقصود بالخمار هنا: الحجاب الطويل الذي يصل إلى ما فوق الركبة تقريبا من غير النقاب، أو تغضب بسبب عدم تلبية الشاب طلب والدته بحلق لحيته أو تخفيفها من غير ضرورة؟
4- كيف يرضيها / ترضيها، بعد حدوث مشكلة كالسابق، خصوصا إن طبقت الأم ما قالت وهي جادة بأنها لن تتحدث إليه / إليها إلا إذا أطاعها الشاب بحلق لحيته، أو إذا أطاعتها الفتاة بلباس الحجاب المتبرج مثلا؟
أرجو الإجابة على هذه الأسئلة، وتزويدنا بأسماء بعض الكتب التي تفيدنا حول هذا الموضوع.
أحسن الله إليكم في الدنيا والآخرة.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الابنة الفاضلة/ الفقيرة إلى الله حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نسأل الله العظيم أن يوفقك لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا جميعا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن ينفع بك بلاده والعباد، وأن يجعلك قرة عين لوالديك ولأمتك.
فإن بر الوالدين من أعظم القربات بعد عبادة رب الأرض والسماوات، ولا عجب فإن الوالدين هم أعظم الناس فضلا ومنة على الإنسان بعد الله تبارك وتعالى، ومهما أحسن الإنسان لولديه فإنه لابد أن يشعر أن حقهما أعظم.
وقد ربط الله تبارك وتعالى بين عبادته وبر الوالدين في مواضع عديدة في كتابه، حتى قال ابن عباس: (لا يقبل الله عبادة من لا يطيع والديه، فقيل له من أين لك؟ فقال: من هذا التلازم في كتاب الله بين عبادة الله وبر الوالدين (( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ))[الإسراء:23]، (( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ))[النساء:36].
وقد ضرب سلف الأمة نماذج من الإحسان إلى الوالدين، حتى وجد فيهم من كان يحمل أمه على ظهره ليحج بها، ووجد من كان لا يصعد على سطح إذا كانت أمه تحته، ووجد فيهم من ظل يدلك ساقي والده حتى أصبح ليخفف عنه الألم، وفي الصباح قال لهم: لا أبالي بطاعة من صلى حتى أصبح، وهذا من فقههم، فإن الذي صلى قام بنافلة والإحسان إلى الوالدين واجب من واجبات هذه الشريعة، ولا يخفى عليك قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة وانسد عليهم الغار، ثم توجهوا إلى الله يصالح وخالص أعمالهم، وكان فيهم من قال: (اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا -يعني ولا خدم- فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرجع إلا وقد ناما، وكرهت أن أقدم عليهما أهلا ولا مالا، والصبية يتصايحون عند قدمي، فظللت أمسك الإناء حتى أصبحا) ولاحظي أنه كره أن يوقظهما فيقطع نومهما وكره أن يتركهما ينامان بجوعهما.
وقد حفلت السنة النبوية بقصص كثيرة في هذا الميدان، ولعل من أهمها قصة جريج العابد الذي جاءته أمه ونادته وهو يصلي لله، فكان يقول: أي رب أمي وصلاتي، ثم يمضي في صلاته، وتكرر ذلك ثلاث مرات، فدعت عليه بأن يريه الله وجوه المومسات، فاستجاب الله دعوتها، وحصلت له الفتنة وأنقذه الله وأكرمه، فتكلم الصبي ببراءته.
ومن هنا نعلم أن طاعة الوالدين تقدم على نافلة الصلاة على تفصيل يذكره الفقهاء، ولكن طاعة الوالدين إنما تكون إذا أمرا بطاعة الله، فإذا حصلت معارضة بين طاعة الوالدين وطاعة الله فإننا نقدم طاعة الله، ونجتهد مع ذلك في الإحسان إليهما ومصاحبتها بالمعروف، قال تعالى: (( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ))[لقمان:15]، وقد نزلت هذه الآيات في قصة سعد بن أبي وقاص الذي رفضت أمه الطعام والشراب والظل من أجل أن تجبره على ترك الإسلام، فقال لها بثبات أهل الإيمان: (والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دين محمد، فكلي إن شئت أو دعي) قال هذا الكلام مع أنه كان شديد البر بأمه، ولكن طاعة الله أغلى.
وهذه أسماء رضي الله عنها سألت رسولنا صلى الله عليه وسلم وقالت: (قدمت علي أمي وهي مشركة! أفأصل أمي؟ فقال لها: نعم صلي أمك) وهذا جانب من رحمة وعظمة هذا الدين.
ومن واجبنا أن نجتهد في بر والدينا والإحسان إليهم، والصبر عليهم، ولن يضيع أجرنا عند الله، فإن الله يجازي بالإحسان إحسانا، وإذا بر الإنسان أبويه رزقه الله بالأبناء البررة، ويسر له أموره، وأسعده في حياته، وويل ثم ويل لمن يقصر في حق والديه.
ومن هنا لابد أن نعلم أنه لا ينبغي أن نطيع من يأمرنا بمعصية الله كائنا من كان؛ لأن الطاعة في المعروف مع ضرورة الحرص على الإحسان للوالدين وصحبتهما بالمعروف، والاجتهاد في نيل رضاهم والصبر على جفوتهم وأذاهم.
وإذا أطاع الإنسان ربه وصدق في عبادته، فإن الله يرضى عنه ويرضى الناس عنه؛ فإن القلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء سبحانه.
وأرجو أن يكون همكم رضوان الله، وسوف يرضى الله عنكم ويرضى عنكم الوالدة والوالد، ويغرس محبتكم في قلوب الناس، قال تعالى: (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ))[مريم:96].
وبالله التوفيق.