السؤال
السلام عليكم.
أنا فتاة، عمري 23 سنة، كنت أعمل في قطاع خاص فقدت وظيفتي بسبب فيروس كورونا المستجد أولا، وثانيا بسبب مشاكل في البيت فقدت هاتفي وعملي قبل ثلاثة أشهر لأني ضبطت أكلم شابا ونلت عقابي من والدي واستغفرت وتبت إلى الله تعالى والتزمت بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، حرموني والدي من العمل والهاتف المحمول وأصبحت لا أخرج من البيت إلا برفقة والدتي وشقيقتي.
منذ أسبوعين فجعت بوفاة شقيقي الأصغر ويبلغ 19 عاما جراء نوبة قلبية، وكان شقيقي ملتزم ولكنني لم أكن على علاقة جيدة معه بسبب أنه يتدخل في حياتي الخاصة، وأنه متشدد ولكنني عند وفاته تندمت كثيرا وأتمنى أن يعود لأصلح ما كان بيننا!
أنا لم تعد لدي رغبة أبدا في العيش، ولا أريد أن أخرج من البيت أبدا، ولا البحث عن عمل جديد، ولا أن أتعلم في الجامعة كما كان طموحي أن أدرس في الجامعة! دائما منعزلة ولا أخرج من البيت أبدا، ولا أطيق مقابلة أحد ولا الحديث مع أحد سوى أسرتي.
أمي صابرة ومحتسبة لموت شقيقي، عكسي تماما، أنا دائما في اكتئاب، وأصبحت مدمنة للكافيين بشكل كبير، ولا أنام، أبقى مستيقظة لصلاة الفجر أصلي الفجر وأقرأ القرآن ولا أحس براحة أبدا! أفكر في الانتحار ولكنني أتذكر والدي وشقيقي الذي توفي صالحا!
ملاحظة: والدي راضيين عني ولا يعايرونني بخطئي، ودائما يرضون عني.
أنقذوني، أنا في حيرة من أمري!
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ديما حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا وسهلا بك -أختي العزيزة- وأدعو الله الكريم أن يثلج قلبك بالراحة والسكينة والرضا بقضاء الله خيره وشره، ونسأل الله تعالى لأخيك الرحمة والغفران ولجميع موتى المسلمين الأحياء منهم والأموات، وأسكنه فسيح جنانه ورزقكم الصبر على فراقه.
إن ما تعرضت له من فقدان أخيك هو بلا شك حدث غير اعتيادي ومفاجئ، ويندرج نفسيا تحت ما يسمى بالأحداث الحياتية الصادمة التي تتسم بالفجائية والعجز، حيث تهز هذه النوعية من الأحداث الأمن النفسي للإنسان، وتؤثر على الناس بطرق مختلفة، فبعض الأشخاص يستطيعون تجاوز هذه المرحلة الصعبة خلال فترة قصيرة، وبعضهم قد تطول لديهم هذه الفترة وقد لا يتمكنون من تجاوزها بسهولة، أي تتفاوت درجة الصدمة من قليلة إلى شديدة وتختلف سرعة الإنسان في تجاوزه للصدمة بناء على عدة عوامل وهي: معنى ومكانة الإنسان المفقود بالنسبة للشخص، هل الصدمة مفاجئة أم تدريجية وتم التمهيد لها؟ كيف هي البنية والقوة والصلابة النفسية للشخص؟ خبرات الشخص الحياتية؟ المرحلة العمرية للشخص، حاجة الشخص للإنسان المفقود، وجود دائرة الدعم من حوله.
وهذا ما جعلك ترين والدتك مختلفة عنك في ردة فعلها وتقبلها للموضوع وصبرها عليه، ولكن بالمقابل إن وضعك الحالي والأعراض التي وصفتها لنا أنها تنتابك من الحزن الشديد وفقدان الرغبة في العيش، وفقدان الدافع في إعادة الاندماج في الحياة، وفقدان الرغبة في التواصل الاجتماعي، والامتعاض وعدم الشعور بالراحة، والتفكير بالانتحار وصعوبة العيش من بعد وفاة أخيك، كل هذه الأعراض ليست بحالة اكتئابية مرضية كما سميتها في عنوان رسالتك، بل هي ردة فعل طبيعية من الكرب والحزن على فراق صادم مفجائي لشخص مقرب، وخاصة أن وفاته قد مر عليه أسبوعين فقط، فهذه الفترة هي جدا طبيعية "على المستوى التشخيصي" للشيء الذي تمرين به.
اسمحي لي أن أطيل عليك الشرح بعض الشيء، فالمراحل التي يمر بها الإنسان أثناء تعرضه للصدمة النفسية كفقدان عزيز عليه وكيفية مواجهته لها هي خمسة مراحل بدءا من تلقي الخبر إلى تمكنه من تجاوز هذه المرحلة بسلام، وهي:
- المرحلة الأولى: تبلد المشاعر وحالة من الجمود والمفاجأة عند تلقي الخبر، فلا يعطي الإنسان أي ردة فعل في اللحظات الأولى، وقد تطول هذه المرحلة لدقائق أو لساعات.
- المرحلة الثانية: وهي مرحلة إنكار الحدث، حيث يقوم الإنسان كوسيلة دفاع نفسية داخلية بالإنكار وعدم الاعتراف مع نفسه بخسارة ذلك الشخص العزيز.
- المرحلة الثالثة: وهي الاحتجاج والرفض والتذمر والصراخ والغضب: وكأن الإنسان يرفض مع ذاته وفاة قريبة، وهي حالة نفسية عابرة ومؤقتة، وليس لها علاقة بضعف الإيمان بقضاء الله –كما تفسر غالبا اجتماعيا-.
- المرحلة الرابعة: وهي الكآبة والحزن وضيق الصدر (وهي ما تمرين به الآن)، ويعبر عنها كل شخص بطريقته، فمنهم بالانطواء على النفس، ومنهم بالبكاء الشديد، وهذه المرحلة بالرغم من أنها مؤلمة جدا إلا أنها مهمة جدا للتعافي.
- المرحلة الخامسة وهي القبول، أي قبول الحدث الصادم والبدء بالتخطيط للعودة إلى الحياة الطبيعية ومسؤولياتها، مع الحفاظ الكامل على الوفاء لذكرى الشخص المتوفى.
الفكرة الهامة هنا: أنه من الصحة النفسية أن تنتقلي من مرحلة إلى المرحلة اللاحقة وصولا إلى مرحلة القبول، وأن لا تتثبتي مطولا عند مرحلة معينة دون تجاوزها والانتقال للمرحلة التالية.
خلاصة القول: أنت تمرين الآن بالمرحلة الرابعة من مراحل تجاوز الصدمة وهي الكآبة، وهي طبيعية جدا كردة فعل لأي إنسان في مثل هذا الموقف، وشعورك بلوم الذات والشعور بالذنب هو أحد أعراض فقدان العزيز، أي هذا عرض من أعراض ما تمرين به بفترة الحداد، وهو أن تحاسبي نفسك وتشعرين بالندم على بعض تصرفاتك السابقة تجاه المتوفى، وهذا جزء من الرقي في فترة الحداد، وكما ذكرت لك سابقا إن هذه المرحلة مهمة جدا للتعافي النفسي لديك، لذا تقبلي كل ما تشعرين به واتركي نفسك تعيش فترة الحداد على راحتها؛ لأنها بلا شك ستخرج من هذه المرحلة أقوى إلى مرحلة القبول.
بعض الاقتراحات والنصائح لتجاوز هذه المرحلة الصعبة من حياتك بسلام:
- فكري بطرق إيجابية تتذكرين بها أخيك: تذكري دائما أن هناك سببا وراء حزنك الشديد على وفاة أخيك، ألا وهو أنه كان بالفعل شخصا مميزا في حياتك، وأن علاقتك به من المؤكد أنها كانت تحمل رصيدا كبيرا من الذكريات الجميلة.
- اطلبي المساعدة والدعم والعون الذي تحتاجينه من المقربين لك من العائلة والأصدقاء "حتى وإن كان لقاؤك بهم عن طريق الإنترنت بسبب وضع كورونا الحالي"، فكما أخبرتك سابقا إن وجود دائرة الدعم حول الشخص تعينه كثيرا على تجاوز مراحل الصدمة بسرعة أكبر وبسلام، وقد يفيد جدا تحدثك مع الناس عن المشاعر التي تنتابك، لذا لا تعيشي مشاعر الحزن بداخلك لوحدك.
- اقضي وقتا أكبر مع عائلتك، فهم سيفهمون وجعك بالتأكيد، لأنه نفس وجعهم، وهذا الشيء سيساعدك على التفريغ من مشاعرك، وبالتالي التسريع من عملية الاستشفاء الذاتي.
- النقطة التي تحدثت فيها برسالتك عن والديك (أدام الله لك نعمة وجودهم) بأنهم راضون عنك دائما ولا يعيرونك بخطئك، تدل على حكمتهم في الحياة ولين قلبهم ومحبتهم الكبيرة لك وخوفهم عليك بلا شك، لذا أنصحك مجددا ألا تترددي في قضاء أكبر وقت معهم، فهذا بالإضافة إلى أنه سيفيدك، إلا أنه قد يفيدهم كذلك، فقد يكونون بحاجة لك كنوع من الدعم، فلا تستخفي بدورك ومكانتك لديهم وقدرتك على التأثير الإيجابي عليهم حتى ولو كنت في حالتك هذه، فلا يوجد أجمل من تعاضد أفراد الأسرة مع بعضها في المواقف الصعبة.
- خذي وقتك للتفريغ عن كل ما تشعرين به في هذه المرحلة من الحزن والكآبة، وخذي وقتك لتجاوز حزنك، وتقبلي مشاعرك أيا كانت، بعيدا عن لوم وجلد ذاتك وإطلاق الأحكام على نفسك، فهذه الخطوات هي من أهم الخطوات للتعافي والشفاء من الألم والحزن الناتج عن الصدمة.
- أخيرا: ولله الحمد أن ديننا الحنيف قد علمنا كيفية مواجهة هذه المواقف الصعبة وذلك من خلال التسليم لله بقولنا بعد بسم الله الرحمن الرحيم (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون 156) (سورة البقرة)، فمن قالها وصبر على حزنه ومصيبته أخذ -بإذن الله- ثواب الصابرين الذي وعدهم الله تعالى به بقوله: (واصبروا إن الله مع الصابرين)، وقوله أيضا (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)، وينبغي على العبد إذا علم وأيقن أن الله تعالى هو الحكيم العليم، أن يبقى دائما مطمئنا ومحتسبا في كل ما يصيبه.
ختاما: أدعو لك براحة البال والقلب، وأتمنى أن لا تترددي في مراسلتنا مجددا في حال وجود أية استفسارات أخرى وللاطمئنان عنك عن قريب، دمت برعاية الله وحفظه.